23‏/12‏/2010

ميرميد - قصة قصيرة






(1)


دبي الناصعة، كلمعة برق، تحتل أوردتي، أعرج على حي "المريقبات" وانا احشر قلبي بين ضلوع ممزقة وبين أجساد غريبة تحفها ظلال الطرقات الضيقة، أمضي نحو مجمع "الغرير"، تعرف "لمياء"، كيف أعالج المرار في سطوع آخر الملامح العالقة عند بوابة المطار الاخيرة، تعلم حاجتي الملحّة للضوء، في الامسية الأولى بعد الوداع، تبهرني المحال التجارية، أتسمر كظل مخطوف باهت تحت ضوء اللافتات العملاقة، سأكون الاكثر تعاسة يا لمياء إن فات هذا المساء دون أن احظى باحدى كفيكِ تفرك غيمة الغبش المعتادة عن عيني بعد كل وداع... "باريس جاليري" وانفراج الشفتين عن مرار اللقاءات المتباعدة، حين تخلع عن جيدها ربطة "اليونيفورم" الرمادي، تهرع نحوي وهي تبتسم، كي اكون الاوفر حظاً، ، تخطفني من بريق "البارفانات الباريسية" وعلب "الماكياج" المركونة على أرفف الواجهات، تستلني من التيه وهي تقول، عزيزي لم يطل بك الغياب...هذه المرة!


منذ سنوات وحورية البحر تحفر طريقها في صدر الماء ، والآن تنزلق أسفل الضوء المنكسر، ثم تصعد بنصفها العلوي نحونا، تطل بلا مبالاة نحو سلسلة المقاهي المبعثرة على رصيف الخور، ترمقني في وجد، تنفض شعرها المموج في حزمتين فوق الصدر...بالكاد تحجبان استدارة النهدين النافرين، أشيح بوجهي، ينداح نداء العرافات في عقلي، أتوجس حين تكرر على مسمعي تلك العواقب: إياك أن تمسها...يداك سوف تخدشان جسدها البلوري، لا محالة...! تلسعني الوصايا فارتد، أتسمر مفتوناً بتكور النهدين حتى يهزمني الفراغ، أدرك السر في صوت "لمياء" حين يهمس خلفي مترفقاً:






- مابك؟ هل عاودتك غواية التحديق في الفراغ؟


وحدها قوارب "البوم" تحرث الفراغ المهيمن على صفحة الماء... أؤثر نزعة الركود فأحتمي "بلمياء".


تنتشي "لمياء" على إثر هبة نسيم رطبة، دغدغت أجواء الساهرين، عزيزي، لم تحدثني عن عناء التخلص من تشبث الحبيب في عناقه الاخير...، تحملق بدمع رقيق يسبح في المقلتين... لم أعانقها، فقط تمثل العناء في الإفلات من قبضة اليدين...! تتراجع في تبدل جذري للملامح: لا تقل لي بأن هاجس الداء القديم، ذلك الغامض... يحول بينكما وبين العناق في تلك اللحظات؟!


- بلى عزيزتي...


- هل تمكّن منكَ هراء العرافات إلى هذا الحد؟ هذا جنون...يا عزيزي!


- ليس هراء يا لمياء... فما تعرفينه عن قصتنا هو اقل القليل


- ألا تطلعني عليها كاملة؟


- سأفعل...فلدي رغبة بأن اتخفف من هذا العناء، سأفضي لكِ بكل شيء...


(2)


كم أحببت عمان من خلال عينيها...!، واحببت هذا المكان لأجلها، هذا ما شيدته العرائس البتول على حافة السفح المطل من دموع الليلة الأخيرة قبل الزفاف، كنّا نطل منه على بيوت القاع في وسط المدينة، أجري الآن فيه عبر المنحدر مذعوراً ، يتلقفني مشفى "اللوزميلا" للمرة الثانية، ظلاله الموحشة شرفة تستلقي على كتف الجبل، "اللويبدة" جبل الارواح العاثرة...لم يكن بهذه القسوة يا حبيبتي، لكنه الآن كذلك، في الغرفة المنفردة أقصى الممر، وعلى سرير جللته ملاءات بيضاء نقية، كنتُ أطيل النظر إلى وجهي في تراب قدميها وانا أعيد إليهما الغطاء، الجسد المسحور، خائر... يستلقي في سلام، حتى بمسحته الشاحبة وتجلد الملامح وجهها ينافس البلور، هذه الانابيب الدقيقة إلى أين تصل وهي تخرق جوفها المعطر بانفاس الجنائن، لهف نفسي، مالذي جرى ويجري لها...ومنذ أن طبعتُ قبلتي الاولى ورسمتُ بأناملي خطوطاً خفية للوجد على ذلك الجسد النقي؟


- نزفتْ كثيرا هذه المرة...! يسعفني صوت الطبيب في تأثر بالغ...


- كيف هي الآن... ؟


- بخير...حالتها مستقرة، لكنها نائمة، ستبقى هنا لفترة اطول هذه المرة...الحالة نادرة وغريبة، لذا فمن الضروري معرفة المزيد حولها... "يبتلع نصف الحقيقة، أحثه على الإفصاح اكثر برجاء... يهز رأسهُ في ضيق وهو يبتعد : " لا اظنها ستنجو في المرة القادمة... حياتها منذ الآن في خطر".


تندفع الدماء عبر شعيرات وجهها الدقيقة لمرة اخرى، تستفيق الملامح، ترتسم من جديد، وحين تقوى على الهمس، تردد : حبيبي... ما الذي جرى هذه المرة... وأين أنا؟


تحاول استرداد عافيتها بين ذراعيّ على اريكة الأميرات في المرسم الذي ينتظر، كل شيء ظل على حاله، ألاترين؟ فرشاتك "الهلبية" الخشنة، علب الالوان الزيتية في مكانها على الرف الجانبي، "باليتة" الالوان المرقطة ببقع اللون الأبيض على حالها فوق كرسي الرسم، لوحة "الماسونيت" المرشومة بالطلاء اللوني المخفف فوق مسند الخشب تنتظر يديكِ... ألا ترين؟ تغفو واهنة دون أن تجيب... ليت بمقدوري أن اميز بين لوحاتكما أنت والأستاذ، أنتِ ترسمين حوريات جميلة بلا أثداء تهل عليكِ من ذلك السبيل المنسي في "سقف السيل"... وهو يرسمكِ أنتِ، أهدهد لها كطفلة، تذعن لخيار أناملي في التغلغل بين خصلات شعرها المميش... لأمضي بعيداً بفتنة الأنثى في زخم الرائحة المنبعثة من الجذور.






(3)


أغادر مسرعاً، مخلفاً ورائي صرير باب بيتي في حي "الأشرفية"، على الجانب الآخر تشتبك الشوارع، تزدحم بالناس والمركبات، تنخفض وتيرة القلق أمام نبرة الصوت المتعافية وهي تؤكد عبر الهاتف النقال: أنا بخير... لن أشارك الأستاذ صالة الرسم لهذا اليوم، اليوم فقط... فلا تتأخر؟


أهبط المنحدر الأخير، تطالني اللافتة البيضاء -"مشفى اللوزميلا"- بقدر يسير مما علق من غم لم ينجل بعد، انسياب حالم لإيقاعات "طارق الناصر" وحلم "رم" الأزلي في تسلل معتاد يغمرني بنشوة أكيدة بقرب اللقاء، تفيض ألحانها كالصيف وانا اقترب من اللافتة الأخرى المطفأة، "ميرميد مرسم وجاليري" الافتتاح قريبا... تفر من ظلال"الأكي دنيا" الوارفه، نحوي، بعد أن تلمح خيال قامتي خلف سور حديقتها المنخفض، تهرول عبر الممر المرصوف، خصال ذهبية منثورة على الصدر وموديل لا ترغب بالتخلي عنه، تنورة من الجينز فضفاضة، تنحسر عن كعبيها قليلا حين تقفز بذراعيها كي تطوقني، لم يستعد الوجه نضارته، بعد... ما الذي حدث... وكيف حدث يا غالية؟


- لاشيء، تأملني جيدا... أنا بخير...


لأنفاسها لفح الصحارى، تركتُ لها حرية الولوج إلى صدري تخللته عبر مساماته المتحفزة، حين لمحتُ خدوشاً دقيقة استقرت كأثر باهت على صفحة البلور، دفعني القلق لتفقد المزيد على وجنتيها، دفقة العنق السائغة كبرعم لم تكن أقل حظاً بانفلاتها إلى خارج ياقة القميص النسائي في تلك الأمسية، لتطالها الآن خدوش وتشققات مماثلة...


يطل الأستاذ من بوابة الصالة في الطابق السفلي، يرمقنا في ضيق، نظراته يخالطها ندم شديد ولوم يخص بهما نفسه، نزعتْ ذراعيها لتعتذر إليه كطلفة، ثم استأذنتْ بعدم المشاركة لبقية النهار، جذبني بعيدا بقبضته، ليهمس بعنف: ألم أقل لك... إن "ميرا" لم تخلق ليمسّها الرجال...


- وماذا بعد يا "ميرا" ؟ هذه القروح تثير قلقي ينبغي لها أن لا تكون...


- تبالغ...ليست اكثر من خدوش باهتة عزيزي، لا عليك، حوض السباحة في الباحة الخلفية ...كفيل بها.


في المساء، أمام كؤوس الشاي الأخضر، والتي اعدتها "ربيعة" على ايقاع أغنية صاخبة حملت إليها عبق "الدار البيضاء" وتلال الأطلسي، خلع الأستاذ رداءه الازرق، تخلى عن مواصلة العمل في معرضه الفني المشترك والذي خصصه للإفتتاح كي يرحل باكرا ذلك النهار، مالت "ربيعة" نحوي لتهمس: الأستاذ "جاد" يقتله الضجر من دون الآنسة "ميرا" ...


أعلنت "ميرا" أمامي وعلى انفراد...، مياه الينابيع المعدنية، الساخنة، هي الأكثر فائدة لحالتي...، هل تصحبني إليها في الغد ؟... أجبتها من صميم قلبي: بلى ...بلى حبيبتي، كما تريدين.


لا تقيس "ميرا" فراغها إلا بمقدار ما تتركه أوراق "ربيعة" السائبة من مساحة حرة على طاولة الإستقبال في مدخل الصالة، حدثتني عن صعوبة ما تقوم به من بحث وكثيرا ما أبدت غرابة نحوه: هل هناك ما يستحق في موروثنا الشعبي، ليدفع بفتاة مثلها على النزوح من بلادها البعيدة إلى شرق المتوسط!! وكلما عبرت إلينا بصينية الشاي الاخضر تحت اشجار "الأكي دنيا" تحذرني "ميرا" وهي تخف لملاقاتها: انها اكثر من موظفة لدي... لقد باتت صديقة...لاتنسى.


أطبق أول الليل باكراً، اشجار الصنوبر المعمرة في حي "اللويبدة" تعطر الهواء، تظلل البيوت وجوانب الطرقات، لمبات الإنارة المخفية والتي تناثرت من حولنا عكست خدوش الوجه والعنق وكأنها تشققات على سطوح بلور المرايا، حزمت "ربيعة" أوراقها، شدتها مع بقية المراجع إلى صدرها، وهي تستأذن بالمغادرة: ليس من داعي لبقائي...، وهي غالبا ما تبقى مادام الأستاذ جاد يعمل على لوحاته إلى جانب "ميرا"، ثم ترحل بعد أن يغادر... وماذا تفعلي بعد ان يغادر الجميع...يا صغيرتي؟ تبتسم وهي تلقي برأسها في طمأنينة على كتفي: أرتمي في حضن الماء... في حوض السباحة، خلف هذا الدغل، حتى يغلبني النعاس، فأخرج للنوم.


لكنها تشبثت بيدي بعدها...الليلة تحديدا ليس لي رغبة بالبقاء وحيدة، ولا بالنزول لحوض السباحة...، تطلعت إلي في رجاء ثم قالت: فلتبق معي... أو لنخرج.


مشينا في صعود متلاصقين، تسند رأسها على كتفي، وانا اطوق خصرها الناحل بساعدي، ادركت لاحقا وهي تلقي بجسدها على مقعد الخشب في ميدان "باريس" بانها لم تكن إلا منهكة، فطرت قلبي حين بادرتني بانفاس لاهثة: كنتما صديقين حميمين على الرغم من فارق السن... لم هذا الفتور بينك وبين الأستاذ "جاد"؟ ولما كنتُ لا املك الإجابة، فقد أطرقت ثم عادت للصمت.


(4)


وفيما تواصل اللحاق لتلتحم بأرض شاسعة تبسط ذراعيها على امتداد البصر، راحت تهتز بين عين شمس الضحى والطريق الاسفلتي الضيق في إختراق فج لأطرافها، إلى أن أطلتْ على "زارا"... عيون الماء الساخنة وحماماتها المعدنية، وليس "لميرا" سوى صدرها الحي حين يستجيب لإهتزاز مماثل لما يصدر عن تلك الحافلة، غفتْ على مقعدها المجاور وألقتْ برمّة الجسد الضامر في حجري...


تهرع العرافات من كل صوب، يتلقفن أكف الوافدين، يستدرجنهم بعبارات مألوفة، يتوسلن إليهم حين يلزم، تخلصت "ميرا" ممن تعقبنها برفق، وهي تعبر بخطى بطيئة متثاقلة نحو حمام النساء حيث المياه الساخنة تنتظر، قبلتني قبل ان تتوارى... صرخة مدوية وخاطفة، تجمدت عند بوابة الدخول، تلتها جلبة وتجمهر عفوي للبعض، شدني قلق فطري، ركضت، نفذتُ من بينهم نحو مصدر الصوت، هالني ما رأيتْ...حد الإرتباك، "ميرا" تجلس القرفصاء تسند ظهرها إلى جدارخارجي، شاحبة نظراتها تنم عن ذعر، لم تكن قد عبرت لتخلع شيئاً من ملابسها، لكن كفيها تتقاطعان على صدرها وكأنها تحاول ستر عري محتمل، ماذا حدث؟ ...ردت في ذهول: لاشيء...دعنا نرحل من هنا أرجوك...


انبرت إمرأة موشومة الوجه، أخذت تهتف بصوت مرتفع امام الجميع: لست عرافة غجرية، انا بدوية...والبدوي لا تقوده حجارة الودع، وإنما يستدل بالأثر...، ثمة مسحة غامضة أقرب إلى الفزع علت محياها وهي تهذر، دفنت "ميرا" وجهها بين كفيها ثم ألقت بحملها على صدري، غادرنا واجمين، فيما واصلت تلك العرافة هذيانها بذات الوتيرة من الصخب وهي تتبعنا بخطى عاثرة: لم أقصد السوء... هذه الفتاة مسكينة عالقة بين عالمين، عالم الجن وعالم الأنس...هذه السلالة من حوريات الماء، لن تنجو ما دامت عالقة...، سبقتنا لتسد في وجهنا الطريق، توسلت إليّ كي أصغي، أذعنتُ في ضيق وحيرة، قالت: ليس لهذه السلالة أثداء كبنات البشر، اثدائهن مستديرة نافرة للأمام لا تتدلى على الصدور، لاهالة تحيط بحلماتهن المستدقة، فقط كنتُ أرغب بالوقوف على يقين من ذلك، أما خطوط الوجه واليدين وهذه النظرة فهما تشيران بكل وضوح إلى تلك السلالة...، تجاهلتها في حنق ولم اعقب، بدورها لم تلحق بنا هذه المرة، لكنها تفوهت بما ظل عالقاً في ذهني حتى هذا اليوم: ايها الشاب، لا ينبغي لأحد أن يمسها بشغف، هذه السلالات العالقة تفنى من ذاتها عندئذٍ...أنا واحدة ممن يملكون فرصة الخلاص لها، السرّ في استدارة النهدين، والتقاء أعلى الساقين...فقط تذكر هذا جيداً.


(5)


"حلم رم" لحن أوحد، ينبعث خافتاً من داخل الصالة، أيضاً وحدها أشجار "الاكي دنيا" من ترمي بزهر البراعم الطرية في وجه أولى النسائم مطلع ذلك الخريف، تنفرد بها فيلا "ميرميد" بين باقي الجنائن في "اللويبدة"، تقف "ميرا" على بوابة الصالة تحجب عني الضوء لبرهة، تستطلع، تثني قوامها الممشوق حين تحدق بأزهار الأكي دنيا، تأخذ وقتها حتى تأنس للعتمة، وحين تراني هناك، تشهق بفرح، تخلع عنها روب الألوان وفرشاة الرسم، ثم ترتمي بين أحضاني، تسترنا العتمة بندف الزهر على فروعها الخضراء، ولا أضواء مشتعلة على أرض الحديقة... ربيعة غارقة بسحب الأسطورة من فم الموروث الشعبي خلف طاولة الإستقبال، تبتسم في خفة ومكر، تحذرنا من بعيد، تعض على شفتها السفلى ثم تهز رأسها، وحين تنفض كفيها...نتهيأ لما هو أسوأ، تقفز "ميرا" للمقعد المجاور في حياء تلميذة تخشى أن يضبطها أحد متلبسة،...نريد لإفتتاح الجاليري ان يتم في موعده لن ننتظر حتى تندلع النار في كوانين الشتاء...لهذا علينا ان لا نضيع وقتا في إنجاز هذا المعرض ...، كانت لهجتة في منتهى الصرامة، و"ميرا" تبتسم في حيرة بيننا، نظراتها نحوي تحثني على الرحيل بحب، وتدعوني للتحلي بصبر جميل، عاد الأستاذ "جاد" أدراجه نحو الصالة فيما هممتُ بالمغادرة، "ميرا" تلوح مودعة في حذر فتاة مراهقة، تشير للغد، ثم تطبع قبلة في الهواء.










(6)


هل كان يفترض بتلك الحمى الغامضة أن تسفح جسدي ايضاً...


وأن تبعث قشعريرة البدن على تلك الرؤى في غفواته العابرة، ليقر بها "جاد"، ليعترف بحبي "لميرا" على الأرجح كان ليفعل، ولولا ذلك النهار الذي أفتقدته فيه، لما أدركت تلك الحقيقة، في زاوية الغرفة المشرعة على رحابة منزله في "مخيم الوحدات" والذى خلا إلاّ منه ليظل مفتقداً للمسة الزوجة وصخب الأبناء، وللأبد ...أسند ظهره إلى حافة السرير بصعوبة كبيرة، بينما عيناه توهجتا كجمرتين حين حدق إلي... حدثني عن رؤى غريبة راحت تنتابه تحت وطأة الحمى في غفواته: أرى تلك الصبية تقف إلى جانب السرير، تنظر إلي في تأمل، تلك التي قابلتها البارحة صدفة وهي ترسم على ورق مقوى في ساحة "السبيل" - سبيل الحوريات - بسقف السيل...، بعد ان تماثل للشفاء، عاد طافحاً بألق غير معتاد، أخذ بيدي ثم صعدنا "طلوع الحايك" في خفة لم اعهدها فيه، بادرني بقوله: التقيت بها في نفس المكان...هذا الصباح، وكأنني لم أنقطع عن رؤيتها طوال أيام مرضي...ثم واصل بشيء من التبرير، ليست سوى استجابة لتلك الرؤى، لقد احسستها تحثني على الذهاب... لألقاها مرة اخرى.


- هل هي جميلة إلى هذا الحد يا صديقي...؟- استوقفه السؤال، أطرق وكأنه يستحضر شيئا من أعماق الذاكرة: اتدري...ليس جمالا عاديا، هي أشبه بطفرة جينية نادرة، طفرة حميدة، أفضت إلى ذلك التوافق الدقيق بين عناصر الوجه، ليس جمالا بقدر ما هو غموض يفيض ليغمرها بجاذبية وسحر نادرين.


أمام مكتبي المخصص لأعمال التشطيبات الداخلية ودعني، ليواصل سيره نحو مقر صحيفة محلية، "جاد" الفنان التشكيلي وأستاذ النقد الإنطباعي والسياقي، ...اكبر من أن تقيده الصحف المحلية...، قالها لي في اول لقاء تعارف بيننا، لقد كان محقاً فهو ينتمي لأكثرالصحف العربية والعالمية انتشاراً وشهرة من خلال كتاباته في الفن، اكسبته سنين عمله الطويلة شهرة ونفوذ واسعين، لكنها لم تنسيه إخفاقاته النوعية في الرسم كفنان، التغيرات التي طرأتْ عليه ووصلت إلى سمعي بعد ذلك شملت اماكن جديدة اخذ يتردد عليها مؤخرا، لأعثر عليه بعد جهد في باحة المتحف الوطني للفنون في "جبل اللويبدة" عانقني بروح شبابية عالية، تناسبت وهيئته الجديدة، حدثني بمرح ونحن نخترق الجبل، في مقهى ذو طابع تراثي، زينتْ مدخله لافته خشبية كتب عليها "ركوة عرب" بينما تناثرت على جدرانه صور ولوحات فنية عديدة... وأمام اطلالة ضيقة لجانب من "ميدان باريس"، كان يكشف لي عن نيته ببدء الإعداد لمعرض فني جديد، بعد عزوف دام لعشرين عاماً، أدهشتني نبرة الإصرار في حديثه وتلك الثقة العالية،... لا اخفيك يا عزيزي... فالنقد والكتابة الصحفية لم يقوضا روح الفنان في داخلي، فقط كنتُ افتقد لشفافية الإحساس في إبراز العنصر المهيمن في لوحاتي...قالها ثم غاب ملتصقا باحساسه الطاريء.


كنتُ في دهشة أمام حديثه المتواصل عن تلك الصبية، دعاها "بميرا"، وقال انها تسكن بالقرب من هذا المكان، ولما سألته عن مدى تطور العلاقة، تروى قليلا ليخرج من حيرة شغلته قليلاً، ثم قال: وحيدة، تنتمي لمكان لا ينتمي إليها، ورثتْ فيلا قريبة من هنا، منقوش على حجر قديم يعلو سورها الخارجي، اسم "ميرميد" ... ثم توقف حين انضم إلى جلستنا شاب فاقنا حيوية ومرح، عقص جديلة خلف رأسه، رحب به الأستاذ بحرارة وسارع للتعريف به: شاعرنا الرقيق...، دار حوار فني ثقافي لبرهة، لم يتوان فيه الشاب عن مجاراة "جاد" بمهارة... حتى تعمد الأستاذ أن يزج بأسم "ميرا" بلا مبرر واضح، كبح مجرد التلفظ بذلك الإسم جموحه المرح، خمدت ابتسامته الشابة أيضاً في تلاش تدريجي لتطبق عليه سكينة أقرب إلى الوجوم، مما ضاعف من دهشتي، رد وهو يطلق تنهيدةً ساخنة في فراغ المقهى : لم ابرأ بعد من تلك الحمى... اثقلتني اطياف "ميرا"...،لم اتمالك نفسي، قاطعته في تسرع وفضول: ما تلك الحمى؟ وكيف تخلصت منها انت الآخر؟ رمقني بنظرة حادة وهو يقول: تخلصتْ؟ أنا فقط تخففت منها... هذا لأني لم أرضخ حين كانت تنتابني الهواجس تحت وطأة الحمى... حاولت قتلها بنظم قصيدة...نجحت في القصيدة لكني فشلت في التخلص منها...


بعد أسبوع من ذلك اللقاء، كان يطلعني عبر الهاتف، حول اتفاقه الأخير مع الآنسة "ميرا" والذي يقضي بتحويل الطابق الارضي من فيلا "ميرميد" إلى جاليري ومرسم، وبأن الافتتاح سوف يتوج بدعوة لمعرض فني مشترك بينهما، وبأنني مرشح كعادتي لتنفيذ الأعمال الإنشائية المختلفة، وما يتطلب من "ديكورات" وغيرها، لم افكر بعدها إلا برؤية "ميرا" بدافع فطري صرف، وفقا لموعد الصباح في اليوم التالي، كنتُ أجول إلى جانب الأستاذ في حديقة صغيرة حفتها اشجار خضراء وارفة من "الأكي دنيا"، تقدمت منّا صبية مملوحة تحمل صينية عليها قدحين من الشاي، ظننتها "ميرا"، حتى حدثتنا بلكنة مغاربية جميلة: الآنسة على وشك الحضور...، همس الأستاذ في اذني: الآنسة تأخذ قسطها الصباحي في حوض السباحة...، وأشار إلى دغل كثيف من الأغصان المتشابكة حجب عنّا فناء الدار الخلفي.


كانت أصغر واجمل مما توقعت، لم تتجاوز عامها السادس والعشرين وفقاً لتقديري، متألقة ترفل في ثياب أنيقة بلا تكلف، عقدت يديها حول صدرها حين حدثتني بجدية مطلقة لم تكن لتتفق وتلك الهالة من الجاذبية، لكني عذرت الأستاذ ورثيتُ لحاله ، فقد بدا كهلاً إلى جانبها في تلك اللحظة ، متهالكاً أمام ما وهبتها الطبيعة من جمال وخفة ومستقبل مديد في حين أن تلك الطبيعة توشك أن تدير له ظهرها بعد أن تجاوز عامه الخامس والخمسين...


عادني الأستاذ جاد ليومين متتاليين في مكتبي، ليطّلع بنفسه على وضع التصاميم، وفقا لتلك المعاينة، ولشيء آخر كان اكثر مرحاً...لتحسس جبيني تحسبا لحمى محتملة، أبتسمْ غير مبال، ليقول: ربما تشكلت لديك مناعة...،أرد ارضاءً له: ربما ...ربما يا صديقي. في يومه الثالث عبر نحوي في صمت، جلس وراح ينظر إلي في شرود محير، لم اعلق، فباشر مقطباً وبلا مقدمات: الآنسة مريضة ولا تقوى على الرسم، صور غريبة تكمن لها بين النوم و لحظات اليقظة...، أطلق زفرة وهو يرمي بالخلاصة: الآنسة ... تطلب رؤيتكْ.


(7)


اللويبدة عند حافة الجبل، شرفة عائمة، تطل على مساحة رحبة لأضواء تنوس فوق سطح المدينة، تخطيت "فيلا ميرميد" للمرة الأولى بعد أن راح ينأى عنها ضوء القمر، أعبُّ ما تسلل من فضاء المرسم المتخم بألحان "رم"، ثم أمضي، ومضات متلاحقة تفضي بحنين إلى وجه "ميرا" تتلبسني، كنوار زهر "الأكي دنيا" حين نثرته يديها منذ قليل في محاباة ليد الآخر، وأنا أطرد ما يعلق من الشوق بتلويحة مثقلة نحو أضواء المدينة من يدي، لكن لم ذهبتَ إلى هناك، ولم يكن في نيتك الدخول؟ رجمتني "ربيعة" بهذا السؤال بعد ايام في منتصف الطريق إلى قلب الجبل وهي تتأبط صحف اليوم وتشير من وقت لآخر إلى صور "ميرا" على صفحاتها، ، كنتُ ممتناً لتلك الصدفة، سرنا معاً في صمت ولم اجب،..لقد كانت تنتظر حضورك في كل مساء، وأنت تعلم؟


- كيف هي الآن؟ سألتها بلهفة وانا اركل في اضطراب ما يصادفني من مخلفات لأشجار الطريق...


كما تركتها آخر مرة، لكنها عادت إلى صمتها الأول... تقتل الوقت بفرشاتها الهلبية، تخلتْ تماما عن قسطها الصباحي في حوض السباحة، لتمضي ساعاته في صنع اقنعة غريبة من الطين...، قصتْ شعرها - إن كان ذلك يهمك - فلم يعد طويلا لينسدل في حزمتين على صدرها كما كان، ولم افهم ما عنته "ربيعة" بتلك الأقنعة...، لكن جمرة الشك لسعتني، ذلك الصباح، وأنا على وشك السؤال...كان المرسم خاليا، إلا من حاجاته الشخصية، هاتفه النقال، حافظة النقود الجلدية، سلسلة المفاتيح الطويلة، مريوله الملطخ "بالأكريليك"...لمحتها مبعثرة فوق ذلك النضد، فأين تراه كان...


- والاستاذ جاد؟ سألتها دون تلميح أو إشارة لشيء


- على حاله، رجل يستعصي على الفهم، لا ينفك يزين لها مشروعه الفني في حال نجاحه...وبأنها المستفيدة من هذا النجاح...تصور!


الخلوات المريبة بين "جاد" و "ميرا"، لم يكن لها لتشغلني... لولا انني تغاضيت عما قاله الطبيب في تلك الليلة بمشفى "اللوزميلا"... قال وهو يلوح بسبابته في وجهي : لا، لا...ليس مرضاً جلديا... الآنسة "ميرا" يجب أن تبقى ليومين آخرين، ففحص الأداء الوظيفي للغدد سوف يساعد في تشخيص اكثر دقة لحالتها...عليها تجنب الملامسات الحميمية في الوقت الراهن.


تلك الأمسية، والتي راح ينأى عنها ضوء القمر، كنتُ أحلق مع اللحن المنبعث عند بوابة "الفيلا"، لكني تسمرت هناك، وأنا أرمق في العتمة مقعداً فرديا تجره أيادٍ عابثة كي تواريه خلف أشجار الاكي دنيا، كيف له أن يتسع لشخصين، كهل وفتاه في عمر الورود، لم يظهر منهما سوى القدمين بأحذية اعرفها جيدا تتقاطعان من بعيد بحركات بندولية رتيبة، لمحتُ "ربيعة" من بعيد خلف طاولة الاستقبال وحيدة تقرأ في كتاب، همسات جذلة ومجترحه، حملتها النسائم من بين أشجار الحديقة المظلمة، ثم يدين نثرتا في الهواء نوار الزهر، ليتساقط كالندف فوق المقعد الفردي، غامت الدنيا ولم أعد أميز ما أرى، عدلت عن الدخول، تخطيتها نحو المنحدر، ولم أفق من تلك الصدمة إلا وانا أحملق في اضواء المدينة كأبله من فوق السفح.


قصدتُ "اللويبدة" مع صباح اليوم التالي، ثمة حافز غريب دفعني للذهاب، صوت فيروز يصدح بانسجام في تداخل ازلي لزقزقة العصافير على اشجار الحدائق المجاورة، عبرت مسرعا نحو بوابة المرسم، كانت مشرعة للتو تستقبل الندى، مقعد الاستقبال خال من "ربيعة"، فضاء المرسم الحر أصداء و "بارفانات" لم تزل حية، لقد كانا هنا إذن...، أما لوحاته المثبته فوق المساند وعلى جدران القواطع الجبسية فقد طالعتني بفضول وارتياب، جلتُ ببصري بحثا عن الاستاذ "جاد"، على نضد صغير أمام "أريكة الأميرات"، كانت أغراضه الشخصية ملقاة بلا ترتيب، بما فيها مريوله الملطخ بالأكريليك، أين "ميرا"؟ هي لا تستقبل أحداً في الطابق العلوي، وتأبى أن يشاركها أياً كان حوض السباحة أيضا...فأين هو؟ توجست حين وقع بصري على باب الباحة الخلفية في اخر المرسم، والذي يفضي إلى حوض السباحة، كان مواربا... ابتلعت ريقي حين صرت خلفه، تسلل نحوي همس رتيب مجترح أشعل نارا في صدري، لكني لم أجرؤ على النظر، تراجعت للخلف وأنا اتعثر بما لم أرَ أو اسمع... ثم غادرت وفي نيتي عدم الرجوع إلى ذلك المكان.


دفنتُ رأسي في تفاصيل العمل باستغراق لأيام، كي انسى، لكن وجها ساحراً كوجه "ميرا" وإن تقنع خلف براءة زائفة، إلا انه محض كابوس مستطير، ليس من فرصة سانحة قد يمنحها لأي رجل في التغلب على هاجس حضوره، كان ينسل وجهها خلسة نحو قيلولتي القصيرة، ليثور مع الوقت ثم يندلع في استلاب لما تبقى من لحظات راحتي، فقط في الليل كان يصفو شيئا فشيئاً ليسترد بعضاً مما افتقده من براءة...


لم تفكر "ميرا" بالاتصال، ولا حتى بترك رسالة هاتفية، فقط كنتُ أطالع بدهشة ، مقالات مصورة على صفحات الجرائد المحلية في ذلك الصباح الخريفي، كانت ملاحق الفن والثقافة تستبق الوقائع لتبشر بموهبة "ميرا" الفنية، وتمهد لإفتتاح مرتقب لصالة "ميرميد"، تكرر ذلك لأيام مما ضاعف حدسي بأحقية الأستاذ "جاد" بالبقاء إلى جوار "ميرا" كفنان وناقد له نفوذه في عالم الصحافة والفن، على الرغم من كونه بقاء على حساب وجودي...


تلك الصدفة في قلب الجبل والتي جمعتني "بربيعة"، أضافت هاجساً بالذنب إلى تراكم الأحاسيس الثقيلة الأخرى، ولّدهُ فيض الملامح كلما أشارت "ربيعة" بزهو لصور "ميرا" على صفحات الجرائد، هل أنا وحدي من تخلى عنها؟ ومن خلال وعد قيدني في تلويحة الوداع امام "ربيعة"، كنتُ أمنح لنفسي فرصة أخرى بالرجوع...


عصر ذلك اليوم، كنتُ أدوس عشب الحديقة المبلل بقلب ترجّهُ الهواجس، زهر النوار ترشقني به دفقات حائرة من نسائم الخريف ، "ربيعة" رحبتْ بابتسامة خافتة، على الوعد، تنعف اوراقها إعلانا بهذا، وتكتفي بإشارة إلى جوف المرسم... القاعة تموج بصمت قيلولة عابرة، وخلوة بدت مريبة جثا خلالها الأستاذ على ركبتيه امام "أريكة الأميرات" فيما تستريح "ميرا" مستلقية، رأسها إلى مسند الأريكة القريب وقدميها نحو مسندها الآخر، تنورة الجينز الفضفاضة...تنحسر عن الكعبين بمقدار ضئيل، همس مجترح تردد، لكنه دفعني لأقترب هذه المرة، ألقيت بالتحية، تلقاها الأستاذ "جاد" كدفقة ماء باردة، وهو ينتفض منتصبا في تراجع للخلف، ميرا تثنى جيدها في التفاتة سريعة نحوي وبلا ادنى ارتباك او حرج، ليسفر وجهها عن إشراقة صافية،نقية، وحين تغلّب الشوق على غمامة العتب، قفزت نحوي كطفلة، عانقتني بهمس مشحون: لم تفعل بي هذا... ألم تعد تحبني؟


(8)


مقعد "ربيعة" فارغ، وأوراقها مشرعة، كنا على خطأ، حين ظننا أنها لا تخص أحداً سواها، شرعت تفسر في ذهول وارتباك شديدين وانا أكاد لا أصدق ما أقرأ: أنا أجمع الأسطورة، تلك التي تتغذى على الموروث الشعبي فقط، وأعمد إلى توثيقها، ولا أعمل على تشخيصها كحالة مرتبطة بما هو غيبي... نزعت "ربيعة" فتيل الحرج بهذا الإندفاع في تبريرها، لكنها ألقت بي في قلب دوامة عميقة وغامضة، همستْ لي أيضاً في تأثر حقيقي وهي تشير نحو المرسم: لكنني أحببت "ميرا"...لقد تحولت إلى صديقة مع الوقت، صدقني...، ولم ينتهِ الأمر بيننا، فكل واحد منّا لديه ما يرغب بسماعه من الآخر، و"ميرا" حاضرة تفور نضارتها كبرعم زهرة، وكلما إقترب موعد الإفتتاح، تتوارى خلفنا كظل طفلة، ثم تسحبني من يدي عن أعين الحضور، إلى أشجار "الأكي دنيا"، نلتحم في ظلال عتمتها الخلفية، لتهمس: لم تعد تقبلني...هل مازلت تخشى عليّ، ام أنك لم تعد تحبني؟...، أتلهف ولا اقوى لكنها لا تعلم، فطرت قلبي وانتهى الأمر، في تلك الأمسية الخريفية، أمسكت بيدي، سحبتني نحو الباحة الخلفية عبرت مسرعة بين الأستاذ ومراسلة لصحيفة محلية تحاوره أمام مسند لوحة يرسمها، هرولت، كنتُ أطأ أرضها للمرة الأولى، أشارت لحوض السباحة الصغير وهي تقول انظر: لقد جف تماماً... منذ تلك الزيارة لحمامات "زارا" وجسدي يجافي الماء، لم أعد أطيقه...،انتحت جانبا، لترفع كيسا صغيراً ملقى بجانب الحوض، غمست سبابتها فيه، لطخت وجنتيها الشفافتين بقليل مما يحتويه، وهي تقول: أنظرإنه طين...، ثم واصلت بحرقة: عرائس البتول في هذه المدينة يضعن المساحيق ليزددن جمالاً...أما أنا فأعمد إلى تلطيخ وجهي وجسدي بالطين كل يوم كي أشفى...،


حياة جديدة أخذت تدب هناك، نشبت بايقاع عفوي متصاعد يوحي باقتراب وشيك لإفتتاح صالة الفنون بمعرضها الفني المشترك، مراسلوا صحف محلية وأخرى عربية، حرصوا على حضورهم اليومي لتأخذهم الأمسية إلى أبعد من التغطية، والمقال الصحفي، أغلبهم من الشبان، كان حضورهم بذلك المظهر الشبابي الأنيق مبهراً ولافتاً، كنتُ أرصد عيونهم وهي تحدق في وجه "ميرا"، تلاحقها في ترقب وتيه بين قواطع الجبس في الصالة والحديقة، يحتدم المكان بهمس أصواتهم من وقت لآخر، كأنها ترانيم رائقة، محمولة على وقع نسائم خريفية تهب نحوي مضمخة بعطر زهر "الأكي دنيا"، غمرني شعور بالرضى، وحدها عيون "ربيعة" تثير حنقي وهي تطاردني بآلاف الاسئلة، و"ميرا" تحلق منتشية بين الحضور، تشخص ببصرها نحوي من وقت لآخر، تتحاشى بقائي منفردا، تهرع نحوي كلما تنبهت لذلك، اكدت ذات مرة ومن خلال حوار عابر، بأن مقاعد الحديقة المنفردة، متلاصقة كما هي، متراصة على نسق واحد تحت أشجار "الاكي دنيا" على الدوام، ولم يحدث أن كان هناك مقعدٌ بمفرده، وان لمبات الإنارة المخفية تظل مضاءة حولها حتى الصباح...














(9)


قبيل منتصف الليل، ودعتني ميرا لتلتحق بالأستاذ "جاد" حيث توارت إلى جانبه خلف لوحتها ، لأصحو وحيدا على خرير قدح من الشاي الأخضر، على غير موعد، صوت "ربيعة" يستفز السكون ليثير من حولنا خشخة الأغصان وأوراق الشجر... ألن تبوحَ لي بما حدث في حمامات زارا؟ ميرا تبدلت منذ ذلك اليوم... وهذا يهمني.


- كيف، لم أفهم...؟


- لم تعد تحفل بالذهاب إلى "سبيل الحوريات"، والمكوث فيه... تخلت عن حوض السباحة أيضاً، قصت شعرها الطويل لتبدو مختلفة تماما، كلها أمور تبعث على الحيرة والقلق، أضف إليهما حالة النزف والتي لا تتفق مع طبيعة هذه السلالة...


- ليست بالأمور الهامة... على ما أعتقد


رمقتني بتحدٍ وهي تقول: إذن بماذا تفسر حالة النزف تلك، هل يعقل أن تفعل بضع قبلات بفتاه، كما فعلتْ بوجه "ميرا" وعنقها، ولمرتين متتاليتين، مهما بلغ الشغف بينكما؟ هذا لا يعكس حساسية مفرطة للبشرة كما تظن تلك المسكينة كي تلجأ لأقنعة الطين...لكنه ربما يؤكد أو ينفي بعض الشكوك لدي...، سكتت لبرهة، مستعينة بجرأة إضافية في المواصلة: تلك الشكوك ألزمتني تتبعاً حثيثا "لميرا" منذ ذلك اليوم البعيد على شواطيء الاطلسي في "سيدي بوزيد" وحتى هذا اليوم.


اعتراني قلق مفاجيء حول "ميرا" على الرغم من قناعتي بأن "ربيعة" إنما تتحدث بهوس من خلال تعلق بديهي ومزمن بعالم الاسطورة، لكن هناك وقائع لم يكن بمقدوري تجاهلها، ولهذا كنتُ أرضخ لرغبتها في لقاء يجمعنا للحديث بحرية وبعيدا عن "فيلا ميرميد" ...في ظهيرة اليوم التالي، كان في نيتي أن اقتفي طرف الحكاية حين جمعتنا "دارة الفنون" بين زوار المقصف المطل على قاع المدينة، شرعت تمهد لما قد يستعصي على التصديق : عزيزي هناك بعض القصص الغريبة والتي تخطت حدود الخرافة، لتغدو أساطير متداولة، لم ينف احد حقيقة وقوعها، هناك مثلا توابيت جزيرة "باربادوس" المتحركة، على الجانب الشرقي من البحر الكاريبي، وأسطورة "شامبالا" مملكة السعادة الأبدية المفقودة، وغيرها الكثير.


في الشرق هنا جذبتني أسطورة الجان الذي يسكن قنطرة "السباط" والتي تقع في حي شعبي قديم بمدينة صور بلبنان... ثم نظرتْ إلي مطولا لتدلي بما هو أهم : في عمان وجدتني أتبع طيفا لأسطورة لها جذور الخرافة في بلادي، قادتني من شواطيء الاطلسي إلى "فيلا ميرميد" ...وهذا ما لم تفهمه من اوراقي بالأمس.


- عزيزتي لم آت بنية الإستماع لقصص خرافية مسلية، لك أن تكتبي ما شئتي في بحثك، لكن بعيدا عن "ميرا"...هي ليست اكثر من فتاة وحيدة في هذه الدنيا، ليس لها سوى ثلاثتنا انا وانتِ والأستاذ، لكن يبدو ان لكل منا ما يطمع فيه...


لمستْ بعض الفضول لدي ورغبة بالوقوف على حقيقة ما يجري لتعاود بإلحاح: إذن إطلعني على ما حدث في حمامات زارا؟


- لم يحدث ما يستحق...


نفرت من ردي في ضيق لتموج في جلستها وهي تردد: لا ...لقد حدث الكثير...، وأدى إلى خلط أوراقي كلها... هذا التبدل في سلوك "ميرا" مغاير لما هو مأثور عن تلك السلالات، لستما مدركيّن لمقدار الضرر المحتمل إن تواصل هذا الإنحراف...، إعتدلت في جلستها لتلقي بسهم آخير أعدته لي لتطيح بذلك التحفظ، قالت : ليكن معلوما لديك..."ميرا" لم تكن تقصد الحوض في فناء البيت بنية السباحة صباحاً، أو رياضة الإسترخاء الذهني ليلاً... لقد كانت تأوي للحوض في كل ليلة كي تنام فيه حتى الصباح.


منحتني ربيعة مزيدا من قصاصاتها، بضع ملاحظات تم تدوينها على فترات متباعدة وبتواريخ قديمة نسبيا، كانت كفيلة لخلق دوامة هائلة من التيه والحيرة، تصاعدت لتشملني ... منذ ذلك اليوم، وإلى حيث لم يكتب لها أن تنتهي في يوم من الأيام.


دونت في إحداها مايلي: ...ما كان لتلك الصدفة أن تقع، لتبدأ كرحلة من شاطيء الرمال في "سيدي بوزيد" ...، لتحط رحالها هنا في عَمان، لولا دفقة الريح التي رافقتني في تأملي لذلك الجسد الأسطوري والمنزوي على كرسي الشاطيء في تفرد لا مثيل له، حين غافلتها في هبوب ثورة مفاجئة، لتكشف وزرة "الشيفون" عن أعلى الساقين وعن أمر أخرجني من تأملي مر كلمح البرق قبل أن تطوي الفتاة وزرتها حول ساقيها وهي تتلفتْ بحذر وارتباك، لم يكن بالأمر الهام لولا أن قادني حدسي في تحفزه نحو توصيف الخرافة إلى نفور نهديها الصغيرين نحو الامام من خلال شعرها المموج والمرسل في حزمتين على جانبي الصدر، ثم إتساع مقلتيها، ولمعة الجبين حتى مفرق الرأس، ليغدو ما رأيته عند اعلى ساقيها أمراً غاية في الأهمية، كان يشبه البثور المزمنة تلاحمت لتشكل بقعاً داكنة...كانت أشبه بقشور لمخلوقات بحرية...


لم تعد لشاطيء الرمال في "سيدي بوزيد" بعد ذلك اليوم، لأقضي وقتاً اطول في تعقب عبثي، بين فندق "بروكسيل"، إلى أزقة الحي "البرتغالي"، كانت وحيدة باردة الملامح كذلك الفندق وذلك الحي، يلفها صمت عميق، جمالها يستعصي على الفهم، تحسه ولا تقوى على وصفه، حركتها رشيقة في تلك الملابس الطويلة الواسعة، لولا هذه الصبية، لظلت حكايا "حمو أونامير" مجرد خرافة من تراثنا الشعبي، ولظلت تلك الحورية التي أغلق خلفها سبعة ابواب بعد أن تزوجها محض خيال...


أقتفي أثرها مجددا قبل أن تضيع مني في زحام الازقة الملتوية، في تلك الحارات القديمة تلاشت لوهلة، إنطلقتُ مسرعة لأعبر الزقاق الأخير في إثرها والذي أفضى إلى ساحة رحبة، وسط الحي "البرتغالي" ملتقى زوار المدينة، أهرع لأنتشالها من بين عرافات المزار في إحدى الزوايا، بدت محاصرة وقد تكالبن عليها كصيد ثمين، أما "الغريبة" فكانت عيناها تستنجدان بمن يعبر الساحة في ذعر حقيقي، ترى هل عرفن سرها من خطوط حاجبيها؟ شكرتني بامتنان، لتبدأ حقبة جديدة وهامة من حياتي في اقتفاء اثر حي نحو أسطورة حية باتت تخصني، صافحتني وهي تعرّف بنفسها: "ميرا" ...


في قصاصتها الاخيرة، دونت ما هو أغرب: ... كل الامور تجري وفق ما يرام، أمر وحيد محير، ومربك... ذلك النزف، والذي يعكس في جوهره رفضا جسديا للرجال من بني البشر، وهذا أمر غير معتاد من تلك السلالة...


أفقت لأجد نفسي وحيدا هناك في مقصف "دارة الفنون" بين قصاصات قديمة، أدركتُ ذلك عندما لم تعد "ربيعة" لتنهش عقلي بالحاحها...، ولكن متاخراً، كان الوقت عصرا ليشير بانها قد غادرت ومنذ ساعات، قفز وجه "ميرا" باشراقة ساحرة جذابة، ببراءته المعتادة ودفء حنانه، أجتاحني شغف إشتياق لايوصف لرؤيتها على غير عادتي، مزقت القصاصات وألقيتُ بها في سلة المهملات، ثم غادرت المكان وأنا ألعن نفسي.


(10)


ومع حلول الليل، وفي استجابة خاطفة لهبوب نسائم خريفية، ارتعشتْ لها أغصان "الأكي دنيا"وانا أعبر نحو الحديقة، تمايلتْ بسحر ثم خمدتْ، لمحتُ "ميرا" في مدخل الصالة، وهي تحدث "ربيعة" بانفعال بينما الأخرى لا تصغي، بدت متغضنة ومنهمكة في حزم أوراق وكراسات وبضع كتب ألقت بها على طاولة الإستقبال باضطراب، أقبلتْ "ميرا" نحوي مهمومة، غفلت عن التحية، وعن منحي قبلة اللقاء، لتبادر بالقول: ربيعة...ربيعة تريد الرحيل، بلا مقدمات او سبب واضح تتخذ قرارا كهذا...، طلبت مني بذل محاولة جادة في إقناعها بالبقاء، خصوصا وأن الإفتتاح قد بات وشيكاً... والضرورة تقضي ببقائها.


شعرتُ بمرارة الإنصياع وأنا اقايض بقاء "ربيعة" بافتضاح سر يخص "ميرا"، منفرديّن كنا نتحدث في الركن البعيد من الحديقة، ولما أتيتُ في حديثي على ما أفضت به عرافة البدو في "زارا"، حول السلالات العالقة بين عالمين...لطمت "ربيعة" جبهتها بيدها، وهي تردد بصوت مرتفع إثر إشراقة مباغتة: هو ذاك...أقسم أن هذه العرافة صادقة وتعرف الكثير، فهذا يفسر الكثير مما حيرني...، ثم ركضت نحو مدخل الصالة احضرت موسوعة الأساطير الضخمة، راحت تقلب صفحاتها، أشارت لصفحة واخذتْ تقرأ بصمت على وهج المصابيح بعضا من محتواها... إلتفتتْ إلي بغتة، تنهدتْ بأسى لتقول: "ميرا"...يا لتلك البائسة، إنها تمارس إنتحارا باختيارها لهذا الحب...، أرجوك، عليك أن تأخذني لتلك العرافة...أرجوك.


(11)


كان للإفتتاح المهيب عصر ذلك اليوم، والذي جرى بمثابة حفل باذخ، أهميته في لفت إنتباه النخب الفنية نحو "ميرا" كفنانة تشكيلية جريئة بمقومات جمالية نادرة، شخصيات رسمية كانت لها أولوية الحضور إلى جانب الصفوة من نخب وسمته في إجتذابها إليه بطابع فني رفيع وهام، بدا الأستاذ "جاد" مرتاحاً في استثمار حده الأقصى من ذلك النفوذ في إجتذاب تلك النخب وهو يأخذ بيد "ميرا" ليمضيا برفقة الجميع وبمنتهى اللباقة حتى آخر لوحة معروضة، كان حضورها الأكثر تميزاً، ألى جانب الأستاذ، تتبعها بقع الضوء المنبثقة من السقف في دوائر متلاحقة على إمتداد الصالة لتغدو بفستانها الابيض كحورية تحررت من إطار لوحة ما في ذلك المعرض، كانت محط انظار الجميع بلا استثناء، حظي المعرض المشترك بتغطية اعلامية واسعة، تم الترويج من خلاله لاحقاً "لجاليري ميرميد" ولميرا أيضا كفنانة شابة ملهِمة، انفردت بحفز الذات الفنية للأستاذ في إبراز العنصر المهيمن للوحاته وبتلك الشفافية اللائقة...بعض الصحف تجاوزته إلى وضع "سيناريوهات" محتملة لمستقبل العلاقة بينهما كثنائي مميز في عالم الفن التشكيلي، والبعض الآخر لم يبرح ذلك الجانب الضيق في تأويل العلاقة والبحث لها عن إطار شخصي مناسب، استاذ مرتهن بمستقبل تلميذة فتية...أما "ربيعة" فكان لها تساؤل مشابه، وسوست به هامسة: أتراهن ...عزيزي؟


- على ماذا...؟


- أن الأستاذ سوف يتقاسم "الجاليري" مناصفة مع "ميرا"... لن يمر هذا النجاح من دون ثمن باهظ تدفعه بالمقابل.


ويهبط الليل بعد كل امسية، من أماسي المعرض، ليبترد الجبل وعلى هسيس تمايل جذل لرؤوس أشجاره الشامخة، تودع "ميرا" آخر الراحلين عند بوابة "ميرميد" كي نعزف ألحاننا في تبادل تتراخى له الحروف حين يعلو وجيب الوجد على وقع تنهيدات متلاحقة: إن كنتَ تحبني ...فلم هذا الجفاء؟، نشوة النجاح تغمر "ميرا"، نهبط وحيدين نحو اقرب مقعد يقبع في عتمة الحديقة، نلوذ أجساداً تفور بنشوة اللقاء، لكنها تتجافى في حذر، تخشى المحاولة، بقع النزف لا تفارقني، وهي تردد: إن كنتَ تحبني...فلم هذا الجفاء؟...هل أصحبك للطابق العلوي؟ أهمس لها في مكر... ترفض بدلال وبهزة صارمة من رأسها...، هل نملأ حوض السباحة مجدداً عزيزتي؟ كم أود مشاركتكِ السباحة فيه...، تخرج عن صمتها بانفعال: لا...طبعا، ثم تتدارك لتهمس في حنان: أقصد، ليس الآن...بل لاحقا.


ثم نغادر، نجوب الطرقات بحثاً عن وجبة سريعة، بعض المحال تظل مشرعة حتى ساعة متأخرة من الليل، تقودنا أقدامنا نحو "ميدان باريس" في كل مرة، لنصدف آخر من تبقى من مرتادي مقهى "ركوة عرب"، يلاحقنا البعض بنظرات فضولية من خلف الزجاج، نواصل البحث بلا طائل، غالبا ما كنا نرجع لنقتات على مخلفات النهار، او نفترق لنخلد بلا عشاء.


في ظهيرة اليوم الأخير للمعرض، كنا نقلب الصحف على طاولة الإستقبال، وكان الاستاذ "جاد" قد إستعاد نبرته القديمة بألفةٍ ودفء في التحدث إليّ ومنذ اليوم الاول للإفتتاح، كان يغمره إرتياح عميق، وهو يستشف في مقالاتها إشادات اولية تمهد لنجاح مأمول، لكنه بدا لي قلقاً حيال أمر ما.


"ربيعة" تقلب أمامها دفتر الزوار، تردد عبارات منتقاة لأسماء لامعة على الصعيد المحلي في مجال الفن التشكيلي، تثني على اختيارهم "لجاليري ميرميد" باحتضان معارض فنية مقبلة لهم، مؤكدة بأن الربيع القادم سيحفل بالعديد من تلك المعارض وفقا لما تم الإتفاق عليه من حجوزات تلت يوم الإفتتاح...بينما "ميرا" صامتة، في حبور، ورضى، تغمز لي بحذر من حين لآخر، تدور كؤوس الشاي الأخضر على طبق أعدته "ربيعة" قبل أن يدلف اول الزائرين نحو الجاليري، ورد نداء هاتفي للأستاذ "جاد" غاب قليلا وسط الصالة ليعود بوجه فاضت قسماته ببشرى صَعُبَ عليه إخفاؤها، التقطنا أنفاسنا أمام هذا التبدل، قفز أمامنا وهو يصيح: محطات تلفزة، عربية وأجنبية...سوف تحط هنا اليوم.


- سيعلو سقف المطالب لديه...، تعود "ربيعة" لهمسها، فيما تظنه ثمنا باهظاً ستدفعه


"ميرا"، كان ذلك قبل ان يفصح "جاد" عن نيته في بيانه الختامي أمام إحدى محطات التلفزة الإيطالية، كرد على سؤال حول مشروعه التالي، والذي قلب كل التوقعات لنا جميعا، باستثناء "ميرا"...مما أفقد "ربيعة" شيئاً من إتزانها، لم نفاجأ بالتقارير المعدة مسبقا من خلال محطات التلفزة، والتي اثنت على المعرض المشترك ووصفته بالمنسجم من حيث الحركة والإيقاع البصري، وبالجدير بالاهتمام من حيث إبراز العنصر المهيمن، ليختم أحد أبرز الحاضرين من مهتمي الفن التشكيلي والذي رافق إحدى بعثات التلفزة الإيطالية بتوجيه دعوة رسمية للأستاذ وتلميذته لمشاركة فعلية في معرض دولي سوف يقام في "ميلانو"...الصيف المقبل، لكن المذهل أن يتمهل ثم يرنو "جاد" قبل أن يرد بمنتهى الجدية، على سؤال أخير لتلك المحطة بلغة عربية لا لبس فيها: سأختار العودة لمدينتي "رام الله"، لأحظى بنهاية هادئة، سأعتزل الرسم، لأواصل من خلال الصحافة رسالتي في النقد لهذا الفن، وبكل موضوعيه...


وحدها "ميرا" تستنكر ذهولنا: ما الذي يدعوا للدهشة، لقد اطلعني على الامر منذ البداية، "جاد" وبعد سلسلة من معارضه التي لم يكتب لها النجاح، كان عليه أن يسعى لتحقيق حلمه بمعرض فني ناجح أخير ليختم به حياته الفنية، هذا كل شيء...، فيما لاذت "ربيعة" بصمت عميق، ولم تنبس بكلمة.


(12)


عادت موسيقى "رم" لتصدح من جديد، وكأن شيئاً لم يكن، "فيلا ميرميد" خلت من زوارها لتنزع إلى سكينة إفتقدتها فيما مضى، الطقس يضمر امراً ما منذ الظهيرة، ساق إلينا سحباً داكنة غطت سماء الجبل، تعلقنا على شرفة المدينة نرقبها في سهوم حتى أطبقت على امتداد الأفق، فوق "عمان"... ذلك المساء كان بانتظارنا حدث آخر، حضر فيه الاستاذ "جاد"...كان في هيئتة ما يوحي باستعداده التام للسفر، ودع المكان بما يليق بوداعية أخيرة اولاً، ألتقط صورا لما تبقى للوحاته، كنتُ ألمس في تلك اللحظه مدى حبه الذي لم يتبدل نحوي وهو يوصيني خيرا "بميرا"، ودعها بهمسة على إنفراد، هزت رأسها دون ان تنظر إليه، بادلته "ربيعة" تأثراً مماثلا وهي تصافحه، شمل المكان بنظرة واسعة خلفت في نفوسنا بالغ الأثر، تنهد في وجوهنا ثم غادر مسرعاً، ولم أره بعدها إلا على صفحات تلك الجريدة الصفراء بزي البحر، منهك الجسد، بتلك الصورة التي قلبت حياتي رأساً على عقب حتى يومي هذا.


مع الليل، رشقتنا السماء بوابل غزير من المطر، كنا وحيدين أنا و"ميرا" نتبادل همساً دافئاً على مقعد فردي وسط الحديقة، قفزت من بين يدي على لسع قطراته، ركضت نحو الصالة وهي تمسح وجهها وجسدها في ذعر، عثرتْ في طريقها على خرقة بالية راحت تنشف ما تبلل منها في إضطراب أربكني، ولما هدأت كنا نصغي في صمت إلى هطوله المتواصل خارج الصالة، قالت في ضراعة: أرجو أن لا تسألني إلى أين، ولا لأي غرض، فقط دعني أمضي لما خططتُ له...المستحضرات الطينية لزجة لا تكفي وتبعث على السأم، أحتاج لمياه غنية بتلك الاملاح، ساخنة...لشيء ما مغاير لهذه المياه الفقيرة.


في اليوم التالي، استعادت بعضاً من تألقها، وهي تحتضن حقيبة صغيرة للملابس، قبلتنا على خدينا انا و"ربيعة"،وهي تقول: فقط لأسبوع واحد، تغاضيا عن هذا الغموض لمرة اخيرة،...، نظرت إليّ في رقة: بعدها لن نفترق لآخر العمر، اعدكْ...


زحَفَ البرد نحو قمة الجبل لأمسيات متتالية، وران صمت ثقيل أحاط بأشجار "الأكي دنيا" في حديقة "ميرميد" ربيعة تستأثر بوحشة المكان، منفردة، تغلق بوابة الصالة في وجه النسائم ليحط الليل باكرا هناك، أخذتُ أعرّج على فترات متباعدة، كنا إذا إلتقينا انا وربيعة، تقاسمنا الفضول حول "ميرا" وغايتها المبهمة من تلك الرحلة المفاجئة، نستفيض في تخمينات لا طائل منها، لكن الوقت يربض بيننا في تحالف خفي مع وحشة المكان، حتى قالت ربيعة ذات مساء وبإصرار: خذني إلى "زارا" غداً، أريد ان التقي بتلك العرافة البدوية...


عثرنا عليها تطارد شمساً خجولة، قرابة الظهر، دل عليها تدحرج الوشم إلى اسفل الذقن بين عرافات "زارا"، استوقفناها، بيد انها لم تفاجأ بنا، وكأننا كنا على موعد مسبق، نقلّت بصرها بيننا، وقبل ان ترمينا بسهام الدهشة، نظرتْ إلى ملياً وقالت: أنتَ الشاب الذي رافق "ميرا" في المرة الأولى...بادرتها السؤال في دهشة: وكيف عرفتِ باسمها...لا تدعي بأن الجان قد أخبروكِ...، ردت في برود: لا... ليس الجان هذه المرة، هي التي حضرت إلى هنا... لتخبرني، بما اجهل...، كان أمراً لا يصدق، حتى لربيعة ايضاً والتي تسمرت ولم تنطق... واصلت تلك العرافة: لو انها مكنتني من صدرها، في ذلك اليوم، لتفادينا ضياع الوقت...،هبت "ربيعة" بآلاف الأسئلة مدفوعة بفضول المعرفة، صدتها العرافة بتلويحة من يدها قائلة: البدوي لا يشي بالدخلاء...ولا يجهر باسرارهم...، واكتفت بالقول، بأن "ميرا" تلك البائسة، لديها روحا طاهرة، نقية، وقلبا صافياً، واما جسدها فهو مرتهن وعالق بين عالمين مختلفين ولا تملك من امره شيئا، وقبل ان تذهب، التفتت إلينا مستفسرة: لكن قولا لي... هل قصتْ شعرها الطويل فلم يعد يغطي صدرها، وهل شرعت بترويض جسدها على الزهد بالماء، هل توقفت عن زياراتها العبثية إلى "سبيل الحوريات"...؟ أم ماذا؟ أجبناها، بأن ذلك قد حدث فعلا، أطرقت ثم نظرت إلينا لتقول: مما يعني انها إختارت عالم الإنس وهي تسعى للإنعتاق نحوه بكل جد...تلك الصبية عاشقة، أتمنى أن لا تدفع حياتها ثمنا لذلك.


كنا نقبع صامتيْن، أنا وربيعة ذلك المساء، ثم شرعت تتفحص ما تبقى من لوحات معلقة على صدور القواطع الخشبية في الصالة، تحاول الربط بينها، وبين أمر ما، تجاهلتها تماماً، كانت تصر على أن أشاركها بعض النظريات التي تقوم على أسس علمية، وأن أقنع بها على تلك الطريقة وليس على طريقة العرافات وقرّاء البخت... فلم تفلح، امسكتُها من يدها واشرت، لمشفى "اللوزميلا" المجاور وأنا أؤكد لها : بأن "ميرا" تعاني مرضا غامضاً...وهذا مما لاشك فيه، لكن الحقيقة - التي انتظرها - تكمن هناك، وانه بمجرد العثور على تشخيص طبي دقيق للحالة، فإن "ميرا" ستخضع لبرنامج علاجي حتى تشفى...وينتهي الأمر...، عدلتْ ربيعة عن محاولاتها، ولاذت بموسوعة الأساطير تقرأ في صمت.


(13)


بلغ الشوق لميرا حدوده، بعد مرور سبعة أيام على الغياب اخذتُ أرقب عودتها بصبر نافذ، فلم ادرك في ذلك الصباح المختلف سر الروائح الكريهة التي داهمتني، وعبرت عنوة من خلال النافذة لبيتي في حي "الاشرفية" لأصحو باكرا وقبل الأوان، ولا لتلك الإختناقات المرورية الغامضة التي ضجت بها شوارع العاصمة على حين غرة...لكنني ادركت سريعا بأنه النحس لهول ما كان بانتظاري وانا أعبر فيلا ميرميد، كان وجه "ربيعة" المتغضن يعكس خيبة ما ويمهد لما هو اسوأ، بدت فاقدة لحماسها المعتاد أيضاً، تقدمت نحوي وهي تقول: ليس هناك من اسطورة حية، من الصعب أن أصحو اليوم بعد هذه السنين لأقف على حقيقة جلية كهذه...، رددتُ في توجس: أية حقيقة تلك؟


- بأنني أضعتُ الكثير من سنيني في بحث عبثي قادني إلى هنا ذات يوم...


- لم افهم يا "ربيعة"...


دفعتْ باحدى الصحف الاسبوعية نحوي، وهي تشير إلى صورة ملونة إحتلت نصف المساحة المخصصة للصفحة الأخيرة، تذيلها تعليق مقتضب...الأستاذ برفقة تلميذته الموهوبة، إستراحة المبدع بعد حصد النجاحات، فماذا بعد؟... حالة من الغثيان شملتني، كنتُ اصغي لربيعة ولا اعي ما تقول: كان على "ميرا" أن تدفع الثمن...أدركت هذا منذ البداية، لكن لم يخطر ببالي أن يكون باهظاً إلى هذا الحد...، كانت الصورة تُظهر بوضوح الاستاذ "جاد" بزي البحر مستلقيا على ظهره يداري جسداً منهكاً فوق كرسي طويل، وإلى جانبه "ميرا" تراخت إلى كرسي مماثل بزي مثير لكنه يستر كامل الجسد. كانت خلفية الصورة تشير إلى منتجع "موفنبيك" على شاطيء البحر الميت، هبت روائح الصباح الكريهة على إثرذلك، وعلا نفير الحافلات في رأسي، ولم أفق إلا في اليوم التالي...لأصحو وقد إستحالت الأشياء إلى اعاصير مدمرة من حولي، والرؤى إلى صخب مفزع.


في الخيانة، يروق لنا أن نُمعن النظر إلى عيني من نحب فيما نحن نرميه بالرصاص، وهذا ما كان مني، حين تذرعتُ بالذهاب لمرة أخيرة صوب "فيلا ميرميد"، كي أصحب "ربيعة" إلى المطار بعد أن حسمتْ أمرها بالعودة إلى "المغرب"، هرعتْ "ميرا" نحوي كعهد أيامنا الأولى، تجاهلتها وكأني لا أراها، أشتقت لكْ...قالتها، لكني لم أصغِ او التفتْ، واصلت خطاي نحو "ربيعة" إلى داخل الصالة وهي تحزم ما تبقى من متاعها القليل، واصلت "ميرا" بنبرة خافتة وحشرجات متلاحقة: ليس لي غيركم وكان علي أن أصحب شخصا أثق به سواك، شخص لن أراه مرة أخرى... وليس له الحق في ان يراني في أوضاع غير لائقة...، أصغينا لما قالت لكننا لم نعقب او نلتفت نحوها ايضاً، تأبطت "ربيعة" كراسات وكتب كثيرة، وحملتُ أنا الحقيبة، سرنا، لحقت بي "ميرا" عبر الحديقة، أفضت بصوت مبحوح أخذ يخبو تدريجيا: يمكننا أن نتشارك حوض السباحة، منذ اليوم، والطابق العلوي إن شئت...ولما واصلتُ صمتي، إرتمتْ هي على مقعد هناك، نظرتُ إليها للمرة الأولى، كانت كتمثال، بملامح باردة، تحدق في نقطة بعيدة، إنحنتْ نحوها "ربيعة" قبلتها قبلة وداع خاطفة، على بوابة الفيلا كنا نلقي السمع لآخر ما تلفظت به "ميرا" من كلمات، بصوت مخنوق: أكان يجدر بي إطلاع الصحيفة على حقيقة مرضي، وبأنني في رحلة علاجية...؟


رحل الأستاذ "جاد" ولم يعد، وفارقتنا "ربيعة" إلى غير رجعة، أما أنا فأوصدتُ خلفي جرحاً وباباً كان يقودني ذات يوم إلى "جبل اللويبدة"، جبل الأرواح العاثرة، ولم يبقَ هناك متسع "لميرا" عند الشرفة المطلة على قاع المدينة لتشيده برفقة العرائس البتول في ليلة الزفاف...غير لافته صغيرة " ميرميد مرسم وجاليري"، أجمع الكثيرون على انها لم تضاء بعد ذلك اليوم، وبأن رياحاً عاتية هبت في ذلك الشتاء، عصفت بأركان الجبل ذات ليلة عمانية، ولم تتوقف إلا مع ظهيرة اليوم التالي، ليتنبه البعض بأنها قد إجتثتْ تلك اللافتة تماما والقت بها بعيداً...


(14)


اعتدلت لمياء في جلستها وهي تعقب قائلة: منذ متى حدث هذا؟


- منذ خمس سنوات... كما أن للقصة بقية...


جحظت عيناها غير مصدقة: وكيف ذلك؟ حقاً هناك ما لا أفهمه في قصتك... فأنت في الخريف من كل عام تشتري علب "الماكياج" الباريسي، و"البارفان" المفضل "لميرا" ثم تذهب في إجازة قصيرة إلى "عمان" لتعود بعدها محملا بالكآبة، فلمن كنتَ تبتاع تلك الهدايا؟


- أذهب في الخريف من كل عام إلى "فيلا ميرميد" أدفع الباب بيدي، يلفحني هواء الصالة الثقيل، أطالع بقايا اللوحات المرسومة والتي ظلت معلقة هناك، ولا أميز بينها فقد كانت "ميرا" ترسم حوريات بلا أثداء، وكان الأستاذ "جاد" يرسمها هي، أشعل، موسيقى "طارق الناصر"، حلم رم...لأستحضر ما فاتني، أضع "البارفان" وعلب "الماكياج" على النضد المجاور لكرسي الأميرات، ثم أغادر، اعود في الخريف الذي يليه، لأجد الهدايا في مكانها وقد كستها طبقة سميكة من الغبار، وهكذا...هذا الخريف لم يبق متسع للمزيد على صفحة النضد...


- أيضا لم أفهم... لم تلك الهدايا وذلك الإنتظار لفتاة لا تستحق؟


- ألم أقل لكِ بأن للقصة بقية؟ فبعد بضع أسابيع على تلك الحادثة، وتلك المواجهة في "فيلا ميرميد"... كنتُ اتلقى إتصالا من مشفى "اللوزميلا"، يفيد بضرورة حضوري نيابة عن "ميرا"، كنتُ ألمح عيني الطبيب تراوغان خلف زجاج نظارته السميك، ولسانه يمهد لحقيقة ما، راح يقلب أوراقا كثيرة في ملف أصفر، كتب عليه إسم "ميرا"...قال: حالة الآنسة "ميرا" مع كل أسف تم تصنيفها من ضمن الحالات النادرة ...والنادرة جدا، والتي يقف الطب عاجزاً عن فعل أي شيء أمامها...هذا ما أفضتْ به النتائج وبشكل حاسم...طلبتُ إليه أن يوضح أكثر، فأردف محاولا تبسيط حالتها: خلل وظيفي في أداء الغدد يدفع بهرمونات غير مألوفة وبمعدلات أعلى مما هو معتاد، تصاحب حالة التهيج الحميمي مما يسبب إرتفاعاً في ضغط الدم، وبالتالي حدوث النزف الدموي عند النهايات الحسية، هذا يجعل من الامر اكثر تعقيدا، الزواج فيه خطر عليها، لذا عليكم إرجاؤه...، كان ذهني يتحرر من عقدة المواجهة الاخيرة مع "ميرا" لتصفو صورتها على صفحة رقراقة ولكن بأقصى ملامح مؤلمة...قلت له باندفاع: ألا ينبغي لها معاشرة الرجال؟، كان رده صارما وحاسما: هذا مستحيل... فالإثارة الشبقية قاتلة...مهلكة، وفقاً لحالتها. كنتُ اغادر المشفى، تشدني الرغبة لشيء ما قد فاتني...لأن أراها لمرة اخرى، لأجدد سابق عهدي حين كنتُ أرى وجهي في تراب قدميها... لكني بحثتُ عنها في كل مكان ولأشهر طويلة، فلم اعثر لها على أي اثر، كانت قد تلاشت تماماً، كأن لم تكن، ضاقت الدنيا بما رحبت، فقررتُ الرحيل، أغلقتٌ مكتبي هناك، واذعنتُ لفكرة السفر، كان التعاقد للعمل قدراً كي التقيكِ هنا، في دبي... لمحتُ دموعاً تراقصتْ في عيني "لمياء"، وهي تنهضْ بخطى ثقيلة، وتغادر بلا استئذان...رحت أرمقها وهي تتهادى بين المقاهي المتناثرة على ضفة الخور...حتى توارت تماماً... عدتُ وحيدا لكني إغتسلتُ بالضوء من سطوع الملامح ومما أورثته السنين، تخففتُ من حملي بأنانية معتادة لتنوء به "لمياء"، وعدتُ وحيداً أحدق في الفراغ وانتظر عودة أخيرة لحورية الماء... بيد انها غافلتني ككل مرة، ولم تعد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


2/12/2010 - الدمام