14‏/01‏/2011

إصدار الطبعة الثانية من مجموعة قصص “جاليريا”

















صدرت عن دار فضاءات حديثاً
"الطبعة الثانية من جاليريا" قصص لناصر الريماوي
عن دار فضاءات للنشر والتوزيع صدرت حديثاً المجموعة القصصية (جاليريا) الطبعة الثانية، للقاص ناصر فالح الريماوي، تقع في 255 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافها الفنان نضال جمهور.
أكثر ما يميز القاص ناصر الريماوي، ديمومة اشتغاله على تطوير النص، وقدرته على سبر أغوار مساحات منسية، أو غير مفكر فيها، على صعيد الصورة، وكأنه يغرف من حقول مفرداته البكر، ليرسم جملة قادرة على وضعه في مصاف القصاصين المتميزين عربيا، ورغم هذا كله تجده كالجالس على قلق، أو كمن يحترق بجمر اللغة فيظل رغم شغفه لتوحدها، قلقا، متحفزا ليمنحها أفضل ما فيه.
وزع الكاتب قصصه على خمسة أقسام: الأول تحت عنوان (الطفولة مزمنة) ويحتوي على خمس قصص، وفيها يسكن السارد أمكنة لها من القيمة النفسية الكبيرة في تشكيل شخصيته، ويمكن تسميتها مهد الطفولة المترع بالحنين، والذي يؤشر إلى علاقات متشابكة العواطف، وحميمية عالية مرتبطة بالمكان بكل جزئياته، من الحارات القديمة والزقاق والنوافذ الضيقة التي تطل على أحلام طفولية تدل على يقظة مبكرةٍ بالأشياء، وترسم ملمحا للشخصية مرهوناً بمكان وزمان معينين. والثاني بعنوان (الغرباء) ويضم ثلاثة قصص هي: الرحيل، على هامش الحب، موت لم يكتمل، ينتقل فيها الكاتب إلى مرحلة نضوج الفكرة واختمارها من حيث بلوغ الشخصيات سنّاً متقدا بالأحلام، تحب وتكره وتتخذ القرار الذي تراه مناسباً. والثالث بعنوان (من سيرة الأيام) ويتضمن أربع قصص هي: (البحث عن طارق لحمادي)، (عقدة ذنب)، (قهوة ليس أكثر)، و(اللقاء الأخير. والرابع بعنوان (تداعيات الربوة المعتمة) ويتضمن قصتين: (اللوح المحفوظ) و(خازن الربوة). والخامس بعنوان (انكسارات صباحية) ويضم 12 قصة من نوع القصص القصيرة جدا التي تعتمد على الإدهاش والمباغتة في اقتناص الفكرة، وعلى الإيجاز والتكثيف في بنائها، معتمدا على أسلوبه الشعري المتميز في السرد.
وإلى جانب ذلك تحتوي المجموعة على 10 قصص متفرقة أطولها القصة الأخيرة (منـزل الأقنان: سطور مائية من دفتر السياب)، وكما هو واضح من عنوانها فإن القاص ناصر الريماوي يقدم فيها مقاربة سردية لحياة الشاعر الراحل بدر شاكر السياب، مستحضراً تلك الحقبة الزمنية التي عاشها الشاعر بكل ما رافقها من إرهاصات سياسية ومنافي، ويؤشر إلى تجربة شعرية فذّة أسّست لتيار شعري حديث منذ منتصف القرن الفائت.


مدير دار فضاءات
جهاد أبو حشيش
دار فضاءات للنشر والتوزيع
عمّان – الأردن
شارع السلط - مقابل مبنى سينما زهران

dar_fadaat@yahoo.com
تلفاكس: 0096264650885
جوال: 00962777911431

23‏/12‏/2010

ميرميد - قصة قصيرة






(1)


دبي الناصعة، كلمعة برق، تحتل أوردتي، أعرج على حي "المريقبات" وانا احشر قلبي بين ضلوع ممزقة وبين أجساد غريبة تحفها ظلال الطرقات الضيقة، أمضي نحو مجمع "الغرير"، تعرف "لمياء"، كيف أعالج المرار في سطوع آخر الملامح العالقة عند بوابة المطار الاخيرة، تعلم حاجتي الملحّة للضوء، في الامسية الأولى بعد الوداع، تبهرني المحال التجارية، أتسمر كظل مخطوف باهت تحت ضوء اللافتات العملاقة، سأكون الاكثر تعاسة يا لمياء إن فات هذا المساء دون أن احظى باحدى كفيكِ تفرك غيمة الغبش المعتادة عن عيني بعد كل وداع... "باريس جاليري" وانفراج الشفتين عن مرار اللقاءات المتباعدة، حين تخلع عن جيدها ربطة "اليونيفورم" الرمادي، تهرع نحوي وهي تبتسم، كي اكون الاوفر حظاً، ، تخطفني من بريق "البارفانات الباريسية" وعلب "الماكياج" المركونة على أرفف الواجهات، تستلني من التيه وهي تقول، عزيزي لم يطل بك الغياب...هذه المرة!


منذ سنوات وحورية البحر تحفر طريقها في صدر الماء ، والآن تنزلق أسفل الضوء المنكسر، ثم تصعد بنصفها العلوي نحونا، تطل بلا مبالاة نحو سلسلة المقاهي المبعثرة على رصيف الخور، ترمقني في وجد، تنفض شعرها المموج في حزمتين فوق الصدر...بالكاد تحجبان استدارة النهدين النافرين، أشيح بوجهي، ينداح نداء العرافات في عقلي، أتوجس حين تكرر على مسمعي تلك العواقب: إياك أن تمسها...يداك سوف تخدشان جسدها البلوري، لا محالة...! تلسعني الوصايا فارتد، أتسمر مفتوناً بتكور النهدين حتى يهزمني الفراغ، أدرك السر في صوت "لمياء" حين يهمس خلفي مترفقاً:






- مابك؟ هل عاودتك غواية التحديق في الفراغ؟


وحدها قوارب "البوم" تحرث الفراغ المهيمن على صفحة الماء... أؤثر نزعة الركود فأحتمي "بلمياء".


تنتشي "لمياء" على إثر هبة نسيم رطبة، دغدغت أجواء الساهرين، عزيزي، لم تحدثني عن عناء التخلص من تشبث الحبيب في عناقه الاخير...، تحملق بدمع رقيق يسبح في المقلتين... لم أعانقها، فقط تمثل العناء في الإفلات من قبضة اليدين...! تتراجع في تبدل جذري للملامح: لا تقل لي بأن هاجس الداء القديم، ذلك الغامض... يحول بينكما وبين العناق في تلك اللحظات؟!


- بلى عزيزتي...


- هل تمكّن منكَ هراء العرافات إلى هذا الحد؟ هذا جنون...يا عزيزي!


- ليس هراء يا لمياء... فما تعرفينه عن قصتنا هو اقل القليل


- ألا تطلعني عليها كاملة؟


- سأفعل...فلدي رغبة بأن اتخفف من هذا العناء، سأفضي لكِ بكل شيء...


(2)


كم أحببت عمان من خلال عينيها...!، واحببت هذا المكان لأجلها، هذا ما شيدته العرائس البتول على حافة السفح المطل من دموع الليلة الأخيرة قبل الزفاف، كنّا نطل منه على بيوت القاع في وسط المدينة، أجري الآن فيه عبر المنحدر مذعوراً ، يتلقفني مشفى "اللوزميلا" للمرة الثانية، ظلاله الموحشة شرفة تستلقي على كتف الجبل، "اللويبدة" جبل الارواح العاثرة...لم يكن بهذه القسوة يا حبيبتي، لكنه الآن كذلك، في الغرفة المنفردة أقصى الممر، وعلى سرير جللته ملاءات بيضاء نقية، كنتُ أطيل النظر إلى وجهي في تراب قدميها وانا أعيد إليهما الغطاء، الجسد المسحور، خائر... يستلقي في سلام، حتى بمسحته الشاحبة وتجلد الملامح وجهها ينافس البلور، هذه الانابيب الدقيقة إلى أين تصل وهي تخرق جوفها المعطر بانفاس الجنائن، لهف نفسي، مالذي جرى ويجري لها...ومنذ أن طبعتُ قبلتي الاولى ورسمتُ بأناملي خطوطاً خفية للوجد على ذلك الجسد النقي؟


- نزفتْ كثيرا هذه المرة...! يسعفني صوت الطبيب في تأثر بالغ...


- كيف هي الآن... ؟


- بخير...حالتها مستقرة، لكنها نائمة، ستبقى هنا لفترة اطول هذه المرة...الحالة نادرة وغريبة، لذا فمن الضروري معرفة المزيد حولها... "يبتلع نصف الحقيقة، أحثه على الإفصاح اكثر برجاء... يهز رأسهُ في ضيق وهو يبتعد : " لا اظنها ستنجو في المرة القادمة... حياتها منذ الآن في خطر".


تندفع الدماء عبر شعيرات وجهها الدقيقة لمرة اخرى، تستفيق الملامح، ترتسم من جديد، وحين تقوى على الهمس، تردد : حبيبي... ما الذي جرى هذه المرة... وأين أنا؟


تحاول استرداد عافيتها بين ذراعيّ على اريكة الأميرات في المرسم الذي ينتظر، كل شيء ظل على حاله، ألاترين؟ فرشاتك "الهلبية" الخشنة، علب الالوان الزيتية في مكانها على الرف الجانبي، "باليتة" الالوان المرقطة ببقع اللون الأبيض على حالها فوق كرسي الرسم، لوحة "الماسونيت" المرشومة بالطلاء اللوني المخفف فوق مسند الخشب تنتظر يديكِ... ألا ترين؟ تغفو واهنة دون أن تجيب... ليت بمقدوري أن اميز بين لوحاتكما أنت والأستاذ، أنتِ ترسمين حوريات جميلة بلا أثداء تهل عليكِ من ذلك السبيل المنسي في "سقف السيل"... وهو يرسمكِ أنتِ، أهدهد لها كطفلة، تذعن لخيار أناملي في التغلغل بين خصلات شعرها المميش... لأمضي بعيداً بفتنة الأنثى في زخم الرائحة المنبعثة من الجذور.






(3)


أغادر مسرعاً، مخلفاً ورائي صرير باب بيتي في حي "الأشرفية"، على الجانب الآخر تشتبك الشوارع، تزدحم بالناس والمركبات، تنخفض وتيرة القلق أمام نبرة الصوت المتعافية وهي تؤكد عبر الهاتف النقال: أنا بخير... لن أشارك الأستاذ صالة الرسم لهذا اليوم، اليوم فقط... فلا تتأخر؟


أهبط المنحدر الأخير، تطالني اللافتة البيضاء -"مشفى اللوزميلا"- بقدر يسير مما علق من غم لم ينجل بعد، انسياب حالم لإيقاعات "طارق الناصر" وحلم "رم" الأزلي في تسلل معتاد يغمرني بنشوة أكيدة بقرب اللقاء، تفيض ألحانها كالصيف وانا اقترب من اللافتة الأخرى المطفأة، "ميرميد مرسم وجاليري" الافتتاح قريبا... تفر من ظلال"الأكي دنيا" الوارفه، نحوي، بعد أن تلمح خيال قامتي خلف سور حديقتها المنخفض، تهرول عبر الممر المرصوف، خصال ذهبية منثورة على الصدر وموديل لا ترغب بالتخلي عنه، تنورة من الجينز فضفاضة، تنحسر عن كعبيها قليلا حين تقفز بذراعيها كي تطوقني، لم يستعد الوجه نضارته، بعد... ما الذي حدث... وكيف حدث يا غالية؟


- لاشيء، تأملني جيدا... أنا بخير...


لأنفاسها لفح الصحارى، تركتُ لها حرية الولوج إلى صدري تخللته عبر مساماته المتحفزة، حين لمحتُ خدوشاً دقيقة استقرت كأثر باهت على صفحة البلور، دفعني القلق لتفقد المزيد على وجنتيها، دفقة العنق السائغة كبرعم لم تكن أقل حظاً بانفلاتها إلى خارج ياقة القميص النسائي في تلك الأمسية، لتطالها الآن خدوش وتشققات مماثلة...


يطل الأستاذ من بوابة الصالة في الطابق السفلي، يرمقنا في ضيق، نظراته يخالطها ندم شديد ولوم يخص بهما نفسه، نزعتْ ذراعيها لتعتذر إليه كطلفة، ثم استأذنتْ بعدم المشاركة لبقية النهار، جذبني بعيدا بقبضته، ليهمس بعنف: ألم أقل لك... إن "ميرا" لم تخلق ليمسّها الرجال...


- وماذا بعد يا "ميرا" ؟ هذه القروح تثير قلقي ينبغي لها أن لا تكون...


- تبالغ...ليست اكثر من خدوش باهتة عزيزي، لا عليك، حوض السباحة في الباحة الخلفية ...كفيل بها.


في المساء، أمام كؤوس الشاي الأخضر، والتي اعدتها "ربيعة" على ايقاع أغنية صاخبة حملت إليها عبق "الدار البيضاء" وتلال الأطلسي، خلع الأستاذ رداءه الازرق، تخلى عن مواصلة العمل في معرضه الفني المشترك والذي خصصه للإفتتاح كي يرحل باكرا ذلك النهار، مالت "ربيعة" نحوي لتهمس: الأستاذ "جاد" يقتله الضجر من دون الآنسة "ميرا" ...


أعلنت "ميرا" أمامي وعلى انفراد...، مياه الينابيع المعدنية، الساخنة، هي الأكثر فائدة لحالتي...، هل تصحبني إليها في الغد ؟... أجبتها من صميم قلبي: بلى ...بلى حبيبتي، كما تريدين.


لا تقيس "ميرا" فراغها إلا بمقدار ما تتركه أوراق "ربيعة" السائبة من مساحة حرة على طاولة الإستقبال في مدخل الصالة، حدثتني عن صعوبة ما تقوم به من بحث وكثيرا ما أبدت غرابة نحوه: هل هناك ما يستحق في موروثنا الشعبي، ليدفع بفتاة مثلها على النزوح من بلادها البعيدة إلى شرق المتوسط!! وكلما عبرت إلينا بصينية الشاي الاخضر تحت اشجار "الأكي دنيا" تحذرني "ميرا" وهي تخف لملاقاتها: انها اكثر من موظفة لدي... لقد باتت صديقة...لاتنسى.


أطبق أول الليل باكراً، اشجار الصنوبر المعمرة في حي "اللويبدة" تعطر الهواء، تظلل البيوت وجوانب الطرقات، لمبات الإنارة المخفية والتي تناثرت من حولنا عكست خدوش الوجه والعنق وكأنها تشققات على سطوح بلور المرايا، حزمت "ربيعة" أوراقها، شدتها مع بقية المراجع إلى صدرها، وهي تستأذن بالمغادرة: ليس من داعي لبقائي...، وهي غالبا ما تبقى مادام الأستاذ جاد يعمل على لوحاته إلى جانب "ميرا"، ثم ترحل بعد أن يغادر... وماذا تفعلي بعد ان يغادر الجميع...يا صغيرتي؟ تبتسم وهي تلقي برأسها في طمأنينة على كتفي: أرتمي في حضن الماء... في حوض السباحة، خلف هذا الدغل، حتى يغلبني النعاس، فأخرج للنوم.


لكنها تشبثت بيدي بعدها...الليلة تحديدا ليس لي رغبة بالبقاء وحيدة، ولا بالنزول لحوض السباحة...، تطلعت إلي في رجاء ثم قالت: فلتبق معي... أو لنخرج.


مشينا في صعود متلاصقين، تسند رأسها على كتفي، وانا اطوق خصرها الناحل بساعدي، ادركت لاحقا وهي تلقي بجسدها على مقعد الخشب في ميدان "باريس" بانها لم تكن إلا منهكة، فطرت قلبي حين بادرتني بانفاس لاهثة: كنتما صديقين حميمين على الرغم من فارق السن... لم هذا الفتور بينك وبين الأستاذ "جاد"؟ ولما كنتُ لا املك الإجابة، فقد أطرقت ثم عادت للصمت.


(4)


وفيما تواصل اللحاق لتلتحم بأرض شاسعة تبسط ذراعيها على امتداد البصر، راحت تهتز بين عين شمس الضحى والطريق الاسفلتي الضيق في إختراق فج لأطرافها، إلى أن أطلتْ على "زارا"... عيون الماء الساخنة وحماماتها المعدنية، وليس "لميرا" سوى صدرها الحي حين يستجيب لإهتزاز مماثل لما يصدر عن تلك الحافلة، غفتْ على مقعدها المجاور وألقتْ برمّة الجسد الضامر في حجري...


تهرع العرافات من كل صوب، يتلقفن أكف الوافدين، يستدرجنهم بعبارات مألوفة، يتوسلن إليهم حين يلزم، تخلصت "ميرا" ممن تعقبنها برفق، وهي تعبر بخطى بطيئة متثاقلة نحو حمام النساء حيث المياه الساخنة تنتظر، قبلتني قبل ان تتوارى... صرخة مدوية وخاطفة، تجمدت عند بوابة الدخول، تلتها جلبة وتجمهر عفوي للبعض، شدني قلق فطري، ركضت، نفذتُ من بينهم نحو مصدر الصوت، هالني ما رأيتْ...حد الإرتباك، "ميرا" تجلس القرفصاء تسند ظهرها إلى جدارخارجي، شاحبة نظراتها تنم عن ذعر، لم تكن قد عبرت لتخلع شيئاً من ملابسها، لكن كفيها تتقاطعان على صدرها وكأنها تحاول ستر عري محتمل، ماذا حدث؟ ...ردت في ذهول: لاشيء...دعنا نرحل من هنا أرجوك...


انبرت إمرأة موشومة الوجه، أخذت تهتف بصوت مرتفع امام الجميع: لست عرافة غجرية، انا بدوية...والبدوي لا تقوده حجارة الودع، وإنما يستدل بالأثر...، ثمة مسحة غامضة أقرب إلى الفزع علت محياها وهي تهذر، دفنت "ميرا" وجهها بين كفيها ثم ألقت بحملها على صدري، غادرنا واجمين، فيما واصلت تلك العرافة هذيانها بذات الوتيرة من الصخب وهي تتبعنا بخطى عاثرة: لم أقصد السوء... هذه الفتاة مسكينة عالقة بين عالمين، عالم الجن وعالم الأنس...هذه السلالة من حوريات الماء، لن تنجو ما دامت عالقة...، سبقتنا لتسد في وجهنا الطريق، توسلت إليّ كي أصغي، أذعنتُ في ضيق وحيرة، قالت: ليس لهذه السلالة أثداء كبنات البشر، اثدائهن مستديرة نافرة للأمام لا تتدلى على الصدور، لاهالة تحيط بحلماتهن المستدقة، فقط كنتُ أرغب بالوقوف على يقين من ذلك، أما خطوط الوجه واليدين وهذه النظرة فهما تشيران بكل وضوح إلى تلك السلالة...، تجاهلتها في حنق ولم اعقب، بدورها لم تلحق بنا هذه المرة، لكنها تفوهت بما ظل عالقاً في ذهني حتى هذا اليوم: ايها الشاب، لا ينبغي لأحد أن يمسها بشغف، هذه السلالات العالقة تفنى من ذاتها عندئذٍ...أنا واحدة ممن يملكون فرصة الخلاص لها، السرّ في استدارة النهدين، والتقاء أعلى الساقين...فقط تذكر هذا جيداً.


(5)


"حلم رم" لحن أوحد، ينبعث خافتاً من داخل الصالة، أيضاً وحدها أشجار "الاكي دنيا" من ترمي بزهر البراعم الطرية في وجه أولى النسائم مطلع ذلك الخريف، تنفرد بها فيلا "ميرميد" بين باقي الجنائن في "اللويبدة"، تقف "ميرا" على بوابة الصالة تحجب عني الضوء لبرهة، تستطلع، تثني قوامها الممشوق حين تحدق بأزهار الأكي دنيا، تأخذ وقتها حتى تأنس للعتمة، وحين تراني هناك، تشهق بفرح، تخلع عنها روب الألوان وفرشاة الرسم، ثم ترتمي بين أحضاني، تسترنا العتمة بندف الزهر على فروعها الخضراء، ولا أضواء مشتعلة على أرض الحديقة... ربيعة غارقة بسحب الأسطورة من فم الموروث الشعبي خلف طاولة الإستقبال، تبتسم في خفة ومكر، تحذرنا من بعيد، تعض على شفتها السفلى ثم تهز رأسها، وحين تنفض كفيها...نتهيأ لما هو أسوأ، تقفز "ميرا" للمقعد المجاور في حياء تلميذة تخشى أن يضبطها أحد متلبسة،...نريد لإفتتاح الجاليري ان يتم في موعده لن ننتظر حتى تندلع النار في كوانين الشتاء...لهذا علينا ان لا نضيع وقتا في إنجاز هذا المعرض ...، كانت لهجتة في منتهى الصرامة، و"ميرا" تبتسم في حيرة بيننا، نظراتها نحوي تحثني على الرحيل بحب، وتدعوني للتحلي بصبر جميل، عاد الأستاذ "جاد" أدراجه نحو الصالة فيما هممتُ بالمغادرة، "ميرا" تلوح مودعة في حذر فتاة مراهقة، تشير للغد، ثم تطبع قبلة في الهواء.










(6)


هل كان يفترض بتلك الحمى الغامضة أن تسفح جسدي ايضاً...


وأن تبعث قشعريرة البدن على تلك الرؤى في غفواته العابرة، ليقر بها "جاد"، ليعترف بحبي "لميرا" على الأرجح كان ليفعل، ولولا ذلك النهار الذي أفتقدته فيه، لما أدركت تلك الحقيقة، في زاوية الغرفة المشرعة على رحابة منزله في "مخيم الوحدات" والذى خلا إلاّ منه ليظل مفتقداً للمسة الزوجة وصخب الأبناء، وللأبد ...أسند ظهره إلى حافة السرير بصعوبة كبيرة، بينما عيناه توهجتا كجمرتين حين حدق إلي... حدثني عن رؤى غريبة راحت تنتابه تحت وطأة الحمى في غفواته: أرى تلك الصبية تقف إلى جانب السرير، تنظر إلي في تأمل، تلك التي قابلتها البارحة صدفة وهي ترسم على ورق مقوى في ساحة "السبيل" - سبيل الحوريات - بسقف السيل...، بعد ان تماثل للشفاء، عاد طافحاً بألق غير معتاد، أخذ بيدي ثم صعدنا "طلوع الحايك" في خفة لم اعهدها فيه، بادرني بقوله: التقيت بها في نفس المكان...هذا الصباح، وكأنني لم أنقطع عن رؤيتها طوال أيام مرضي...ثم واصل بشيء من التبرير، ليست سوى استجابة لتلك الرؤى، لقد احسستها تحثني على الذهاب... لألقاها مرة اخرى.


- هل هي جميلة إلى هذا الحد يا صديقي...؟- استوقفه السؤال، أطرق وكأنه يستحضر شيئا من أعماق الذاكرة: اتدري...ليس جمالا عاديا، هي أشبه بطفرة جينية نادرة، طفرة حميدة، أفضت إلى ذلك التوافق الدقيق بين عناصر الوجه، ليس جمالا بقدر ما هو غموض يفيض ليغمرها بجاذبية وسحر نادرين.


أمام مكتبي المخصص لأعمال التشطيبات الداخلية ودعني، ليواصل سيره نحو مقر صحيفة محلية، "جاد" الفنان التشكيلي وأستاذ النقد الإنطباعي والسياقي، ...اكبر من أن تقيده الصحف المحلية...، قالها لي في اول لقاء تعارف بيننا، لقد كان محقاً فهو ينتمي لأكثرالصحف العربية والعالمية انتشاراً وشهرة من خلال كتاباته في الفن، اكسبته سنين عمله الطويلة شهرة ونفوذ واسعين، لكنها لم تنسيه إخفاقاته النوعية في الرسم كفنان، التغيرات التي طرأتْ عليه ووصلت إلى سمعي بعد ذلك شملت اماكن جديدة اخذ يتردد عليها مؤخرا، لأعثر عليه بعد جهد في باحة المتحف الوطني للفنون في "جبل اللويبدة" عانقني بروح شبابية عالية، تناسبت وهيئته الجديدة، حدثني بمرح ونحن نخترق الجبل، في مقهى ذو طابع تراثي، زينتْ مدخله لافته خشبية كتب عليها "ركوة عرب" بينما تناثرت على جدرانه صور ولوحات فنية عديدة... وأمام اطلالة ضيقة لجانب من "ميدان باريس"، كان يكشف لي عن نيته ببدء الإعداد لمعرض فني جديد، بعد عزوف دام لعشرين عاماً، أدهشتني نبرة الإصرار في حديثه وتلك الثقة العالية،... لا اخفيك يا عزيزي... فالنقد والكتابة الصحفية لم يقوضا روح الفنان في داخلي، فقط كنتُ افتقد لشفافية الإحساس في إبراز العنصر المهيمن في لوحاتي...قالها ثم غاب ملتصقا باحساسه الطاريء.


كنتُ في دهشة أمام حديثه المتواصل عن تلك الصبية، دعاها "بميرا"، وقال انها تسكن بالقرب من هذا المكان، ولما سألته عن مدى تطور العلاقة، تروى قليلا ليخرج من حيرة شغلته قليلاً، ثم قال: وحيدة، تنتمي لمكان لا ينتمي إليها، ورثتْ فيلا قريبة من هنا، منقوش على حجر قديم يعلو سورها الخارجي، اسم "ميرميد" ... ثم توقف حين انضم إلى جلستنا شاب فاقنا حيوية ومرح، عقص جديلة خلف رأسه، رحب به الأستاذ بحرارة وسارع للتعريف به: شاعرنا الرقيق...، دار حوار فني ثقافي لبرهة، لم يتوان فيه الشاب عن مجاراة "جاد" بمهارة... حتى تعمد الأستاذ أن يزج بأسم "ميرا" بلا مبرر واضح، كبح مجرد التلفظ بذلك الإسم جموحه المرح، خمدت ابتسامته الشابة أيضاً في تلاش تدريجي لتطبق عليه سكينة أقرب إلى الوجوم، مما ضاعف من دهشتي، رد وهو يطلق تنهيدةً ساخنة في فراغ المقهى : لم ابرأ بعد من تلك الحمى... اثقلتني اطياف "ميرا"...،لم اتمالك نفسي، قاطعته في تسرع وفضول: ما تلك الحمى؟ وكيف تخلصت منها انت الآخر؟ رمقني بنظرة حادة وهو يقول: تخلصتْ؟ أنا فقط تخففت منها... هذا لأني لم أرضخ حين كانت تنتابني الهواجس تحت وطأة الحمى... حاولت قتلها بنظم قصيدة...نجحت في القصيدة لكني فشلت في التخلص منها...


بعد أسبوع من ذلك اللقاء، كان يطلعني عبر الهاتف، حول اتفاقه الأخير مع الآنسة "ميرا" والذي يقضي بتحويل الطابق الارضي من فيلا "ميرميد" إلى جاليري ومرسم، وبأن الافتتاح سوف يتوج بدعوة لمعرض فني مشترك بينهما، وبأنني مرشح كعادتي لتنفيذ الأعمال الإنشائية المختلفة، وما يتطلب من "ديكورات" وغيرها، لم افكر بعدها إلا برؤية "ميرا" بدافع فطري صرف، وفقا لموعد الصباح في اليوم التالي، كنتُ أجول إلى جانب الأستاذ في حديقة صغيرة حفتها اشجار خضراء وارفة من "الأكي دنيا"، تقدمت منّا صبية مملوحة تحمل صينية عليها قدحين من الشاي، ظننتها "ميرا"، حتى حدثتنا بلكنة مغاربية جميلة: الآنسة على وشك الحضور...، همس الأستاذ في اذني: الآنسة تأخذ قسطها الصباحي في حوض السباحة...، وأشار إلى دغل كثيف من الأغصان المتشابكة حجب عنّا فناء الدار الخلفي.


كانت أصغر واجمل مما توقعت، لم تتجاوز عامها السادس والعشرين وفقاً لتقديري، متألقة ترفل في ثياب أنيقة بلا تكلف، عقدت يديها حول صدرها حين حدثتني بجدية مطلقة لم تكن لتتفق وتلك الهالة من الجاذبية، لكني عذرت الأستاذ ورثيتُ لحاله ، فقد بدا كهلاً إلى جانبها في تلك اللحظة ، متهالكاً أمام ما وهبتها الطبيعة من جمال وخفة ومستقبل مديد في حين أن تلك الطبيعة توشك أن تدير له ظهرها بعد أن تجاوز عامه الخامس والخمسين...


عادني الأستاذ جاد ليومين متتاليين في مكتبي، ليطّلع بنفسه على وضع التصاميم، وفقا لتلك المعاينة، ولشيء آخر كان اكثر مرحاً...لتحسس جبيني تحسبا لحمى محتملة، أبتسمْ غير مبال، ليقول: ربما تشكلت لديك مناعة...،أرد ارضاءً له: ربما ...ربما يا صديقي. في يومه الثالث عبر نحوي في صمت، جلس وراح ينظر إلي في شرود محير، لم اعلق، فباشر مقطباً وبلا مقدمات: الآنسة مريضة ولا تقوى على الرسم، صور غريبة تكمن لها بين النوم و لحظات اليقظة...، أطلق زفرة وهو يرمي بالخلاصة: الآنسة ... تطلب رؤيتكْ.


(7)


اللويبدة عند حافة الجبل، شرفة عائمة، تطل على مساحة رحبة لأضواء تنوس فوق سطح المدينة، تخطيت "فيلا ميرميد" للمرة الأولى بعد أن راح ينأى عنها ضوء القمر، أعبُّ ما تسلل من فضاء المرسم المتخم بألحان "رم"، ثم أمضي، ومضات متلاحقة تفضي بحنين إلى وجه "ميرا" تتلبسني، كنوار زهر "الأكي دنيا" حين نثرته يديها منذ قليل في محاباة ليد الآخر، وأنا أطرد ما يعلق من الشوق بتلويحة مثقلة نحو أضواء المدينة من يدي، لكن لم ذهبتَ إلى هناك، ولم يكن في نيتك الدخول؟ رجمتني "ربيعة" بهذا السؤال بعد ايام في منتصف الطريق إلى قلب الجبل وهي تتأبط صحف اليوم وتشير من وقت لآخر إلى صور "ميرا" على صفحاتها، ، كنتُ ممتناً لتلك الصدفة، سرنا معاً في صمت ولم اجب،..لقد كانت تنتظر حضورك في كل مساء، وأنت تعلم؟


- كيف هي الآن؟ سألتها بلهفة وانا اركل في اضطراب ما يصادفني من مخلفات لأشجار الطريق...


كما تركتها آخر مرة، لكنها عادت إلى صمتها الأول... تقتل الوقت بفرشاتها الهلبية، تخلتْ تماما عن قسطها الصباحي في حوض السباحة، لتمضي ساعاته في صنع اقنعة غريبة من الطين...، قصتْ شعرها - إن كان ذلك يهمك - فلم يعد طويلا لينسدل في حزمتين على صدرها كما كان، ولم افهم ما عنته "ربيعة" بتلك الأقنعة...، لكن جمرة الشك لسعتني، ذلك الصباح، وأنا على وشك السؤال...كان المرسم خاليا، إلا من حاجاته الشخصية، هاتفه النقال، حافظة النقود الجلدية، سلسلة المفاتيح الطويلة، مريوله الملطخ "بالأكريليك"...لمحتها مبعثرة فوق ذلك النضد، فأين تراه كان...


- والاستاذ جاد؟ سألتها دون تلميح أو إشارة لشيء


- على حاله، رجل يستعصي على الفهم، لا ينفك يزين لها مشروعه الفني في حال نجاحه...وبأنها المستفيدة من هذا النجاح...تصور!


الخلوات المريبة بين "جاد" و "ميرا"، لم يكن لها لتشغلني... لولا انني تغاضيت عما قاله الطبيب في تلك الليلة بمشفى "اللوزميلا"... قال وهو يلوح بسبابته في وجهي : لا، لا...ليس مرضاً جلديا... الآنسة "ميرا" يجب أن تبقى ليومين آخرين، ففحص الأداء الوظيفي للغدد سوف يساعد في تشخيص اكثر دقة لحالتها...عليها تجنب الملامسات الحميمية في الوقت الراهن.


تلك الأمسية، والتي راح ينأى عنها ضوء القمر، كنتُ أحلق مع اللحن المنبعث عند بوابة "الفيلا"، لكني تسمرت هناك، وأنا أرمق في العتمة مقعداً فرديا تجره أيادٍ عابثة كي تواريه خلف أشجار الاكي دنيا، كيف له أن يتسع لشخصين، كهل وفتاه في عمر الورود، لم يظهر منهما سوى القدمين بأحذية اعرفها جيدا تتقاطعان من بعيد بحركات بندولية رتيبة، لمحتُ "ربيعة" من بعيد خلف طاولة الاستقبال وحيدة تقرأ في كتاب، همسات جذلة ومجترحه، حملتها النسائم من بين أشجار الحديقة المظلمة، ثم يدين نثرتا في الهواء نوار الزهر، ليتساقط كالندف فوق المقعد الفردي، غامت الدنيا ولم أعد أميز ما أرى، عدلت عن الدخول، تخطيتها نحو المنحدر، ولم أفق من تلك الصدمة إلا وانا أحملق في اضواء المدينة كأبله من فوق السفح.


قصدتُ "اللويبدة" مع صباح اليوم التالي، ثمة حافز غريب دفعني للذهاب، صوت فيروز يصدح بانسجام في تداخل ازلي لزقزقة العصافير على اشجار الحدائق المجاورة، عبرت مسرعا نحو بوابة المرسم، كانت مشرعة للتو تستقبل الندى، مقعد الاستقبال خال من "ربيعة"، فضاء المرسم الحر أصداء و "بارفانات" لم تزل حية، لقد كانا هنا إذن...، أما لوحاته المثبته فوق المساند وعلى جدران القواطع الجبسية فقد طالعتني بفضول وارتياب، جلتُ ببصري بحثا عن الاستاذ "جاد"، على نضد صغير أمام "أريكة الأميرات"، كانت أغراضه الشخصية ملقاة بلا ترتيب، بما فيها مريوله الملطخ بالأكريليك، أين "ميرا"؟ هي لا تستقبل أحداً في الطابق العلوي، وتأبى أن يشاركها أياً كان حوض السباحة أيضا...فأين هو؟ توجست حين وقع بصري على باب الباحة الخلفية في اخر المرسم، والذي يفضي إلى حوض السباحة، كان مواربا... ابتلعت ريقي حين صرت خلفه، تسلل نحوي همس رتيب مجترح أشعل نارا في صدري، لكني لم أجرؤ على النظر، تراجعت للخلف وأنا اتعثر بما لم أرَ أو اسمع... ثم غادرت وفي نيتي عدم الرجوع إلى ذلك المكان.


دفنتُ رأسي في تفاصيل العمل باستغراق لأيام، كي انسى، لكن وجها ساحراً كوجه "ميرا" وإن تقنع خلف براءة زائفة، إلا انه محض كابوس مستطير، ليس من فرصة سانحة قد يمنحها لأي رجل في التغلب على هاجس حضوره، كان ينسل وجهها خلسة نحو قيلولتي القصيرة، ليثور مع الوقت ثم يندلع في استلاب لما تبقى من لحظات راحتي، فقط في الليل كان يصفو شيئا فشيئاً ليسترد بعضاً مما افتقده من براءة...


لم تفكر "ميرا" بالاتصال، ولا حتى بترك رسالة هاتفية، فقط كنتُ أطالع بدهشة ، مقالات مصورة على صفحات الجرائد المحلية في ذلك الصباح الخريفي، كانت ملاحق الفن والثقافة تستبق الوقائع لتبشر بموهبة "ميرا" الفنية، وتمهد لإفتتاح مرتقب لصالة "ميرميد"، تكرر ذلك لأيام مما ضاعف حدسي بأحقية الأستاذ "جاد" بالبقاء إلى جوار "ميرا" كفنان وناقد له نفوذه في عالم الصحافة والفن، على الرغم من كونه بقاء على حساب وجودي...


تلك الصدفة في قلب الجبل والتي جمعتني "بربيعة"، أضافت هاجساً بالذنب إلى تراكم الأحاسيس الثقيلة الأخرى، ولّدهُ فيض الملامح كلما أشارت "ربيعة" بزهو لصور "ميرا" على صفحات الجرائد، هل أنا وحدي من تخلى عنها؟ ومن خلال وعد قيدني في تلويحة الوداع امام "ربيعة"، كنتُ أمنح لنفسي فرصة أخرى بالرجوع...


عصر ذلك اليوم، كنتُ أدوس عشب الحديقة المبلل بقلب ترجّهُ الهواجس، زهر النوار ترشقني به دفقات حائرة من نسائم الخريف ، "ربيعة" رحبتْ بابتسامة خافتة، على الوعد، تنعف اوراقها إعلانا بهذا، وتكتفي بإشارة إلى جوف المرسم... القاعة تموج بصمت قيلولة عابرة، وخلوة بدت مريبة جثا خلالها الأستاذ على ركبتيه امام "أريكة الأميرات" فيما تستريح "ميرا" مستلقية، رأسها إلى مسند الأريكة القريب وقدميها نحو مسندها الآخر، تنورة الجينز الفضفاضة...تنحسر عن الكعبين بمقدار ضئيل، همس مجترح تردد، لكنه دفعني لأقترب هذه المرة، ألقيت بالتحية، تلقاها الأستاذ "جاد" كدفقة ماء باردة، وهو ينتفض منتصبا في تراجع للخلف، ميرا تثنى جيدها في التفاتة سريعة نحوي وبلا ادنى ارتباك او حرج، ليسفر وجهها عن إشراقة صافية،نقية، وحين تغلّب الشوق على غمامة العتب، قفزت نحوي كطفلة، عانقتني بهمس مشحون: لم تفعل بي هذا... ألم تعد تحبني؟


(8)


مقعد "ربيعة" فارغ، وأوراقها مشرعة، كنا على خطأ، حين ظننا أنها لا تخص أحداً سواها، شرعت تفسر في ذهول وارتباك شديدين وانا أكاد لا أصدق ما أقرأ: أنا أجمع الأسطورة، تلك التي تتغذى على الموروث الشعبي فقط، وأعمد إلى توثيقها، ولا أعمل على تشخيصها كحالة مرتبطة بما هو غيبي... نزعت "ربيعة" فتيل الحرج بهذا الإندفاع في تبريرها، لكنها ألقت بي في قلب دوامة عميقة وغامضة، همستْ لي أيضاً في تأثر حقيقي وهي تشير نحو المرسم: لكنني أحببت "ميرا"...لقد تحولت إلى صديقة مع الوقت، صدقني...، ولم ينتهِ الأمر بيننا، فكل واحد منّا لديه ما يرغب بسماعه من الآخر، و"ميرا" حاضرة تفور نضارتها كبرعم زهرة، وكلما إقترب موعد الإفتتاح، تتوارى خلفنا كظل طفلة، ثم تسحبني من يدي عن أعين الحضور، إلى أشجار "الأكي دنيا"، نلتحم في ظلال عتمتها الخلفية، لتهمس: لم تعد تقبلني...هل مازلت تخشى عليّ، ام أنك لم تعد تحبني؟...، أتلهف ولا اقوى لكنها لا تعلم، فطرت قلبي وانتهى الأمر، في تلك الأمسية الخريفية، أمسكت بيدي، سحبتني نحو الباحة الخلفية عبرت مسرعة بين الأستاذ ومراسلة لصحيفة محلية تحاوره أمام مسند لوحة يرسمها، هرولت، كنتُ أطأ أرضها للمرة الأولى، أشارت لحوض السباحة الصغير وهي تقول انظر: لقد جف تماماً... منذ تلك الزيارة لحمامات "زارا" وجسدي يجافي الماء، لم أعد أطيقه...،انتحت جانبا، لترفع كيسا صغيراً ملقى بجانب الحوض، غمست سبابتها فيه، لطخت وجنتيها الشفافتين بقليل مما يحتويه، وهي تقول: أنظرإنه طين...، ثم واصلت بحرقة: عرائس البتول في هذه المدينة يضعن المساحيق ليزددن جمالاً...أما أنا فأعمد إلى تلطيخ وجهي وجسدي بالطين كل يوم كي أشفى...،


حياة جديدة أخذت تدب هناك، نشبت بايقاع عفوي متصاعد يوحي باقتراب وشيك لإفتتاح صالة الفنون بمعرضها الفني المشترك، مراسلوا صحف محلية وأخرى عربية، حرصوا على حضورهم اليومي لتأخذهم الأمسية إلى أبعد من التغطية، والمقال الصحفي، أغلبهم من الشبان، كان حضورهم بذلك المظهر الشبابي الأنيق مبهراً ولافتاً، كنتُ أرصد عيونهم وهي تحدق في وجه "ميرا"، تلاحقها في ترقب وتيه بين قواطع الجبس في الصالة والحديقة، يحتدم المكان بهمس أصواتهم من وقت لآخر، كأنها ترانيم رائقة، محمولة على وقع نسائم خريفية تهب نحوي مضمخة بعطر زهر "الأكي دنيا"، غمرني شعور بالرضى، وحدها عيون "ربيعة" تثير حنقي وهي تطاردني بآلاف الاسئلة، و"ميرا" تحلق منتشية بين الحضور، تشخص ببصرها نحوي من وقت لآخر، تتحاشى بقائي منفردا، تهرع نحوي كلما تنبهت لذلك، اكدت ذات مرة ومن خلال حوار عابر، بأن مقاعد الحديقة المنفردة، متلاصقة كما هي، متراصة على نسق واحد تحت أشجار "الاكي دنيا" على الدوام، ولم يحدث أن كان هناك مقعدٌ بمفرده، وان لمبات الإنارة المخفية تظل مضاءة حولها حتى الصباح...














(9)


قبيل منتصف الليل، ودعتني ميرا لتلتحق بالأستاذ "جاد" حيث توارت إلى جانبه خلف لوحتها ، لأصحو وحيدا على خرير قدح من الشاي الأخضر، على غير موعد، صوت "ربيعة" يستفز السكون ليثير من حولنا خشخة الأغصان وأوراق الشجر... ألن تبوحَ لي بما حدث في حمامات زارا؟ ميرا تبدلت منذ ذلك اليوم... وهذا يهمني.


- كيف، لم أفهم...؟


- لم تعد تحفل بالذهاب إلى "سبيل الحوريات"، والمكوث فيه... تخلت عن حوض السباحة أيضاً، قصت شعرها الطويل لتبدو مختلفة تماما، كلها أمور تبعث على الحيرة والقلق، أضف إليهما حالة النزف والتي لا تتفق مع طبيعة هذه السلالة...


- ليست بالأمور الهامة... على ما أعتقد


رمقتني بتحدٍ وهي تقول: إذن بماذا تفسر حالة النزف تلك، هل يعقل أن تفعل بضع قبلات بفتاه، كما فعلتْ بوجه "ميرا" وعنقها، ولمرتين متتاليتين، مهما بلغ الشغف بينكما؟ هذا لا يعكس حساسية مفرطة للبشرة كما تظن تلك المسكينة كي تلجأ لأقنعة الطين...لكنه ربما يؤكد أو ينفي بعض الشكوك لدي...، سكتت لبرهة، مستعينة بجرأة إضافية في المواصلة: تلك الشكوك ألزمتني تتبعاً حثيثا "لميرا" منذ ذلك اليوم البعيد على شواطيء الاطلسي في "سيدي بوزيد" وحتى هذا اليوم.


اعتراني قلق مفاجيء حول "ميرا" على الرغم من قناعتي بأن "ربيعة" إنما تتحدث بهوس من خلال تعلق بديهي ومزمن بعالم الاسطورة، لكن هناك وقائع لم يكن بمقدوري تجاهلها، ولهذا كنتُ أرضخ لرغبتها في لقاء يجمعنا للحديث بحرية وبعيدا عن "فيلا ميرميد" ...في ظهيرة اليوم التالي، كان في نيتي أن اقتفي طرف الحكاية حين جمعتنا "دارة الفنون" بين زوار المقصف المطل على قاع المدينة، شرعت تمهد لما قد يستعصي على التصديق : عزيزي هناك بعض القصص الغريبة والتي تخطت حدود الخرافة، لتغدو أساطير متداولة، لم ينف احد حقيقة وقوعها، هناك مثلا توابيت جزيرة "باربادوس" المتحركة، على الجانب الشرقي من البحر الكاريبي، وأسطورة "شامبالا" مملكة السعادة الأبدية المفقودة، وغيرها الكثير.


في الشرق هنا جذبتني أسطورة الجان الذي يسكن قنطرة "السباط" والتي تقع في حي شعبي قديم بمدينة صور بلبنان... ثم نظرتْ إلي مطولا لتدلي بما هو أهم : في عمان وجدتني أتبع طيفا لأسطورة لها جذور الخرافة في بلادي، قادتني من شواطيء الاطلسي إلى "فيلا ميرميد" ...وهذا ما لم تفهمه من اوراقي بالأمس.


- عزيزتي لم آت بنية الإستماع لقصص خرافية مسلية، لك أن تكتبي ما شئتي في بحثك، لكن بعيدا عن "ميرا"...هي ليست اكثر من فتاة وحيدة في هذه الدنيا، ليس لها سوى ثلاثتنا انا وانتِ والأستاذ، لكن يبدو ان لكل منا ما يطمع فيه...


لمستْ بعض الفضول لدي ورغبة بالوقوف على حقيقة ما يجري لتعاود بإلحاح: إذن إطلعني على ما حدث في حمامات زارا؟


- لم يحدث ما يستحق...


نفرت من ردي في ضيق لتموج في جلستها وهي تردد: لا ...لقد حدث الكثير...، وأدى إلى خلط أوراقي كلها... هذا التبدل في سلوك "ميرا" مغاير لما هو مأثور عن تلك السلالات، لستما مدركيّن لمقدار الضرر المحتمل إن تواصل هذا الإنحراف...، إعتدلت في جلستها لتلقي بسهم آخير أعدته لي لتطيح بذلك التحفظ، قالت : ليكن معلوما لديك..."ميرا" لم تكن تقصد الحوض في فناء البيت بنية السباحة صباحاً، أو رياضة الإسترخاء الذهني ليلاً... لقد كانت تأوي للحوض في كل ليلة كي تنام فيه حتى الصباح.


منحتني ربيعة مزيدا من قصاصاتها، بضع ملاحظات تم تدوينها على فترات متباعدة وبتواريخ قديمة نسبيا، كانت كفيلة لخلق دوامة هائلة من التيه والحيرة، تصاعدت لتشملني ... منذ ذلك اليوم، وإلى حيث لم يكتب لها أن تنتهي في يوم من الأيام.


دونت في إحداها مايلي: ...ما كان لتلك الصدفة أن تقع، لتبدأ كرحلة من شاطيء الرمال في "سيدي بوزيد" ...، لتحط رحالها هنا في عَمان، لولا دفقة الريح التي رافقتني في تأملي لذلك الجسد الأسطوري والمنزوي على كرسي الشاطيء في تفرد لا مثيل له، حين غافلتها في هبوب ثورة مفاجئة، لتكشف وزرة "الشيفون" عن أعلى الساقين وعن أمر أخرجني من تأملي مر كلمح البرق قبل أن تطوي الفتاة وزرتها حول ساقيها وهي تتلفتْ بحذر وارتباك، لم يكن بالأمر الهام لولا أن قادني حدسي في تحفزه نحو توصيف الخرافة إلى نفور نهديها الصغيرين نحو الامام من خلال شعرها المموج والمرسل في حزمتين على جانبي الصدر، ثم إتساع مقلتيها، ولمعة الجبين حتى مفرق الرأس، ليغدو ما رأيته عند اعلى ساقيها أمراً غاية في الأهمية، كان يشبه البثور المزمنة تلاحمت لتشكل بقعاً داكنة...كانت أشبه بقشور لمخلوقات بحرية...


لم تعد لشاطيء الرمال في "سيدي بوزيد" بعد ذلك اليوم، لأقضي وقتاً اطول في تعقب عبثي، بين فندق "بروكسيل"، إلى أزقة الحي "البرتغالي"، كانت وحيدة باردة الملامح كذلك الفندق وذلك الحي، يلفها صمت عميق، جمالها يستعصي على الفهم، تحسه ولا تقوى على وصفه، حركتها رشيقة في تلك الملابس الطويلة الواسعة، لولا هذه الصبية، لظلت حكايا "حمو أونامير" مجرد خرافة من تراثنا الشعبي، ولظلت تلك الحورية التي أغلق خلفها سبعة ابواب بعد أن تزوجها محض خيال...


أقتفي أثرها مجددا قبل أن تضيع مني في زحام الازقة الملتوية، في تلك الحارات القديمة تلاشت لوهلة، إنطلقتُ مسرعة لأعبر الزقاق الأخير في إثرها والذي أفضى إلى ساحة رحبة، وسط الحي "البرتغالي" ملتقى زوار المدينة، أهرع لأنتشالها من بين عرافات المزار في إحدى الزوايا، بدت محاصرة وقد تكالبن عليها كصيد ثمين، أما "الغريبة" فكانت عيناها تستنجدان بمن يعبر الساحة في ذعر حقيقي، ترى هل عرفن سرها من خطوط حاجبيها؟ شكرتني بامتنان، لتبدأ حقبة جديدة وهامة من حياتي في اقتفاء اثر حي نحو أسطورة حية باتت تخصني، صافحتني وهي تعرّف بنفسها: "ميرا" ...


في قصاصتها الاخيرة، دونت ما هو أغرب: ... كل الامور تجري وفق ما يرام، أمر وحيد محير، ومربك... ذلك النزف، والذي يعكس في جوهره رفضا جسديا للرجال من بني البشر، وهذا أمر غير معتاد من تلك السلالة...


أفقت لأجد نفسي وحيدا هناك في مقصف "دارة الفنون" بين قصاصات قديمة، أدركتُ ذلك عندما لم تعد "ربيعة" لتنهش عقلي بالحاحها...، ولكن متاخراً، كان الوقت عصرا ليشير بانها قد غادرت ومنذ ساعات، قفز وجه "ميرا" باشراقة ساحرة جذابة، ببراءته المعتادة ودفء حنانه، أجتاحني شغف إشتياق لايوصف لرؤيتها على غير عادتي، مزقت القصاصات وألقيتُ بها في سلة المهملات، ثم غادرت المكان وأنا ألعن نفسي.


(10)


ومع حلول الليل، وفي استجابة خاطفة لهبوب نسائم خريفية، ارتعشتْ لها أغصان "الأكي دنيا"وانا أعبر نحو الحديقة، تمايلتْ بسحر ثم خمدتْ، لمحتُ "ميرا" في مدخل الصالة، وهي تحدث "ربيعة" بانفعال بينما الأخرى لا تصغي، بدت متغضنة ومنهمكة في حزم أوراق وكراسات وبضع كتب ألقت بها على طاولة الإستقبال باضطراب، أقبلتْ "ميرا" نحوي مهمومة، غفلت عن التحية، وعن منحي قبلة اللقاء، لتبادر بالقول: ربيعة...ربيعة تريد الرحيل، بلا مقدمات او سبب واضح تتخذ قرارا كهذا...، طلبت مني بذل محاولة جادة في إقناعها بالبقاء، خصوصا وأن الإفتتاح قد بات وشيكاً... والضرورة تقضي ببقائها.


شعرتُ بمرارة الإنصياع وأنا اقايض بقاء "ربيعة" بافتضاح سر يخص "ميرا"، منفرديّن كنا نتحدث في الركن البعيد من الحديقة، ولما أتيتُ في حديثي على ما أفضت به عرافة البدو في "زارا"، حول السلالات العالقة بين عالمين...لطمت "ربيعة" جبهتها بيدها، وهي تردد بصوت مرتفع إثر إشراقة مباغتة: هو ذاك...أقسم أن هذه العرافة صادقة وتعرف الكثير، فهذا يفسر الكثير مما حيرني...، ثم ركضت نحو مدخل الصالة احضرت موسوعة الأساطير الضخمة، راحت تقلب صفحاتها، أشارت لصفحة واخذتْ تقرأ بصمت على وهج المصابيح بعضا من محتواها... إلتفتتْ إلي بغتة، تنهدتْ بأسى لتقول: "ميرا"...يا لتلك البائسة، إنها تمارس إنتحارا باختيارها لهذا الحب...، أرجوك، عليك أن تأخذني لتلك العرافة...أرجوك.


(11)


كان للإفتتاح المهيب عصر ذلك اليوم، والذي جرى بمثابة حفل باذخ، أهميته في لفت إنتباه النخب الفنية نحو "ميرا" كفنانة تشكيلية جريئة بمقومات جمالية نادرة، شخصيات رسمية كانت لها أولوية الحضور إلى جانب الصفوة من نخب وسمته في إجتذابها إليه بطابع فني رفيع وهام، بدا الأستاذ "جاد" مرتاحاً في استثمار حده الأقصى من ذلك النفوذ في إجتذاب تلك النخب وهو يأخذ بيد "ميرا" ليمضيا برفقة الجميع وبمنتهى اللباقة حتى آخر لوحة معروضة، كان حضورها الأكثر تميزاً، ألى جانب الأستاذ، تتبعها بقع الضوء المنبثقة من السقف في دوائر متلاحقة على إمتداد الصالة لتغدو بفستانها الابيض كحورية تحررت من إطار لوحة ما في ذلك المعرض، كانت محط انظار الجميع بلا استثناء، حظي المعرض المشترك بتغطية اعلامية واسعة، تم الترويج من خلاله لاحقاً "لجاليري ميرميد" ولميرا أيضا كفنانة شابة ملهِمة، انفردت بحفز الذات الفنية للأستاذ في إبراز العنصر المهيمن للوحاته وبتلك الشفافية اللائقة...بعض الصحف تجاوزته إلى وضع "سيناريوهات" محتملة لمستقبل العلاقة بينهما كثنائي مميز في عالم الفن التشكيلي، والبعض الآخر لم يبرح ذلك الجانب الضيق في تأويل العلاقة والبحث لها عن إطار شخصي مناسب، استاذ مرتهن بمستقبل تلميذة فتية...أما "ربيعة" فكان لها تساؤل مشابه، وسوست به هامسة: أتراهن ...عزيزي؟


- على ماذا...؟


- أن الأستاذ سوف يتقاسم "الجاليري" مناصفة مع "ميرا"... لن يمر هذا النجاح من دون ثمن باهظ تدفعه بالمقابل.


ويهبط الليل بعد كل امسية، من أماسي المعرض، ليبترد الجبل وعلى هسيس تمايل جذل لرؤوس أشجاره الشامخة، تودع "ميرا" آخر الراحلين عند بوابة "ميرميد" كي نعزف ألحاننا في تبادل تتراخى له الحروف حين يعلو وجيب الوجد على وقع تنهيدات متلاحقة: إن كنتَ تحبني ...فلم هذا الجفاء؟، نشوة النجاح تغمر "ميرا"، نهبط وحيدين نحو اقرب مقعد يقبع في عتمة الحديقة، نلوذ أجساداً تفور بنشوة اللقاء، لكنها تتجافى في حذر، تخشى المحاولة، بقع النزف لا تفارقني، وهي تردد: إن كنتَ تحبني...فلم هذا الجفاء؟...هل أصحبك للطابق العلوي؟ أهمس لها في مكر... ترفض بدلال وبهزة صارمة من رأسها...، هل نملأ حوض السباحة مجدداً عزيزتي؟ كم أود مشاركتكِ السباحة فيه...، تخرج عن صمتها بانفعال: لا...طبعا، ثم تتدارك لتهمس في حنان: أقصد، ليس الآن...بل لاحقا.


ثم نغادر، نجوب الطرقات بحثاً عن وجبة سريعة، بعض المحال تظل مشرعة حتى ساعة متأخرة من الليل، تقودنا أقدامنا نحو "ميدان باريس" في كل مرة، لنصدف آخر من تبقى من مرتادي مقهى "ركوة عرب"، يلاحقنا البعض بنظرات فضولية من خلف الزجاج، نواصل البحث بلا طائل، غالبا ما كنا نرجع لنقتات على مخلفات النهار، او نفترق لنخلد بلا عشاء.


في ظهيرة اليوم الأخير للمعرض، كنا نقلب الصحف على طاولة الإستقبال، وكان الاستاذ "جاد" قد إستعاد نبرته القديمة بألفةٍ ودفء في التحدث إليّ ومنذ اليوم الاول للإفتتاح، كان يغمره إرتياح عميق، وهو يستشف في مقالاتها إشادات اولية تمهد لنجاح مأمول، لكنه بدا لي قلقاً حيال أمر ما.


"ربيعة" تقلب أمامها دفتر الزوار، تردد عبارات منتقاة لأسماء لامعة على الصعيد المحلي في مجال الفن التشكيلي، تثني على اختيارهم "لجاليري ميرميد" باحتضان معارض فنية مقبلة لهم، مؤكدة بأن الربيع القادم سيحفل بالعديد من تلك المعارض وفقا لما تم الإتفاق عليه من حجوزات تلت يوم الإفتتاح...بينما "ميرا" صامتة، في حبور، ورضى، تغمز لي بحذر من حين لآخر، تدور كؤوس الشاي الأخضر على طبق أعدته "ربيعة" قبل أن يدلف اول الزائرين نحو الجاليري، ورد نداء هاتفي للأستاذ "جاد" غاب قليلا وسط الصالة ليعود بوجه فاضت قسماته ببشرى صَعُبَ عليه إخفاؤها، التقطنا أنفاسنا أمام هذا التبدل، قفز أمامنا وهو يصيح: محطات تلفزة، عربية وأجنبية...سوف تحط هنا اليوم.


- سيعلو سقف المطالب لديه...، تعود "ربيعة" لهمسها، فيما تظنه ثمنا باهظاً ستدفعه


"ميرا"، كان ذلك قبل ان يفصح "جاد" عن نيته في بيانه الختامي أمام إحدى محطات التلفزة الإيطالية، كرد على سؤال حول مشروعه التالي، والذي قلب كل التوقعات لنا جميعا، باستثناء "ميرا"...مما أفقد "ربيعة" شيئاً من إتزانها، لم نفاجأ بالتقارير المعدة مسبقا من خلال محطات التلفزة، والتي اثنت على المعرض المشترك ووصفته بالمنسجم من حيث الحركة والإيقاع البصري، وبالجدير بالاهتمام من حيث إبراز العنصر المهيمن، ليختم أحد أبرز الحاضرين من مهتمي الفن التشكيلي والذي رافق إحدى بعثات التلفزة الإيطالية بتوجيه دعوة رسمية للأستاذ وتلميذته لمشاركة فعلية في معرض دولي سوف يقام في "ميلانو"...الصيف المقبل، لكن المذهل أن يتمهل ثم يرنو "جاد" قبل أن يرد بمنتهى الجدية، على سؤال أخير لتلك المحطة بلغة عربية لا لبس فيها: سأختار العودة لمدينتي "رام الله"، لأحظى بنهاية هادئة، سأعتزل الرسم، لأواصل من خلال الصحافة رسالتي في النقد لهذا الفن، وبكل موضوعيه...


وحدها "ميرا" تستنكر ذهولنا: ما الذي يدعوا للدهشة، لقد اطلعني على الامر منذ البداية، "جاد" وبعد سلسلة من معارضه التي لم يكتب لها النجاح، كان عليه أن يسعى لتحقيق حلمه بمعرض فني ناجح أخير ليختم به حياته الفنية، هذا كل شيء...، فيما لاذت "ربيعة" بصمت عميق، ولم تنبس بكلمة.


(12)


عادت موسيقى "رم" لتصدح من جديد، وكأن شيئاً لم يكن، "فيلا ميرميد" خلت من زوارها لتنزع إلى سكينة إفتقدتها فيما مضى، الطقس يضمر امراً ما منذ الظهيرة، ساق إلينا سحباً داكنة غطت سماء الجبل، تعلقنا على شرفة المدينة نرقبها في سهوم حتى أطبقت على امتداد الأفق، فوق "عمان"... ذلك المساء كان بانتظارنا حدث آخر، حضر فيه الاستاذ "جاد"...كان في هيئتة ما يوحي باستعداده التام للسفر، ودع المكان بما يليق بوداعية أخيرة اولاً، ألتقط صورا لما تبقى للوحاته، كنتُ ألمس في تلك اللحظه مدى حبه الذي لم يتبدل نحوي وهو يوصيني خيرا "بميرا"، ودعها بهمسة على إنفراد، هزت رأسها دون ان تنظر إليه، بادلته "ربيعة" تأثراً مماثلا وهي تصافحه، شمل المكان بنظرة واسعة خلفت في نفوسنا بالغ الأثر، تنهد في وجوهنا ثم غادر مسرعاً، ولم أره بعدها إلا على صفحات تلك الجريدة الصفراء بزي البحر، منهك الجسد، بتلك الصورة التي قلبت حياتي رأساً على عقب حتى يومي هذا.


مع الليل، رشقتنا السماء بوابل غزير من المطر، كنا وحيدين أنا و"ميرا" نتبادل همساً دافئاً على مقعد فردي وسط الحديقة، قفزت من بين يدي على لسع قطراته، ركضت نحو الصالة وهي تمسح وجهها وجسدها في ذعر، عثرتْ في طريقها على خرقة بالية راحت تنشف ما تبلل منها في إضطراب أربكني، ولما هدأت كنا نصغي في صمت إلى هطوله المتواصل خارج الصالة، قالت في ضراعة: أرجو أن لا تسألني إلى أين، ولا لأي غرض، فقط دعني أمضي لما خططتُ له...المستحضرات الطينية لزجة لا تكفي وتبعث على السأم، أحتاج لمياه غنية بتلك الاملاح، ساخنة...لشيء ما مغاير لهذه المياه الفقيرة.


في اليوم التالي، استعادت بعضاً من تألقها، وهي تحتضن حقيبة صغيرة للملابس، قبلتنا على خدينا انا و"ربيعة"،وهي تقول: فقط لأسبوع واحد، تغاضيا عن هذا الغموض لمرة اخيرة،...، نظرت إليّ في رقة: بعدها لن نفترق لآخر العمر، اعدكْ...


زحَفَ البرد نحو قمة الجبل لأمسيات متتالية، وران صمت ثقيل أحاط بأشجار "الأكي دنيا" في حديقة "ميرميد" ربيعة تستأثر بوحشة المكان، منفردة، تغلق بوابة الصالة في وجه النسائم ليحط الليل باكرا هناك، أخذتُ أعرّج على فترات متباعدة، كنا إذا إلتقينا انا وربيعة، تقاسمنا الفضول حول "ميرا" وغايتها المبهمة من تلك الرحلة المفاجئة، نستفيض في تخمينات لا طائل منها، لكن الوقت يربض بيننا في تحالف خفي مع وحشة المكان، حتى قالت ربيعة ذات مساء وبإصرار: خذني إلى "زارا" غداً، أريد ان التقي بتلك العرافة البدوية...


عثرنا عليها تطارد شمساً خجولة، قرابة الظهر، دل عليها تدحرج الوشم إلى اسفل الذقن بين عرافات "زارا"، استوقفناها، بيد انها لم تفاجأ بنا، وكأننا كنا على موعد مسبق، نقلّت بصرها بيننا، وقبل ان ترمينا بسهام الدهشة، نظرتْ إلى ملياً وقالت: أنتَ الشاب الذي رافق "ميرا" في المرة الأولى...بادرتها السؤال في دهشة: وكيف عرفتِ باسمها...لا تدعي بأن الجان قد أخبروكِ...، ردت في برود: لا... ليس الجان هذه المرة، هي التي حضرت إلى هنا... لتخبرني، بما اجهل...، كان أمراً لا يصدق، حتى لربيعة ايضاً والتي تسمرت ولم تنطق... واصلت تلك العرافة: لو انها مكنتني من صدرها، في ذلك اليوم، لتفادينا ضياع الوقت...،هبت "ربيعة" بآلاف الأسئلة مدفوعة بفضول المعرفة، صدتها العرافة بتلويحة من يدها قائلة: البدوي لا يشي بالدخلاء...ولا يجهر باسرارهم...، واكتفت بالقول، بأن "ميرا" تلك البائسة، لديها روحا طاهرة، نقية، وقلبا صافياً، واما جسدها فهو مرتهن وعالق بين عالمين مختلفين ولا تملك من امره شيئا، وقبل ان تذهب، التفتت إلينا مستفسرة: لكن قولا لي... هل قصتْ شعرها الطويل فلم يعد يغطي صدرها، وهل شرعت بترويض جسدها على الزهد بالماء، هل توقفت عن زياراتها العبثية إلى "سبيل الحوريات"...؟ أم ماذا؟ أجبناها، بأن ذلك قد حدث فعلا، أطرقت ثم نظرت إلينا لتقول: مما يعني انها إختارت عالم الإنس وهي تسعى للإنعتاق نحوه بكل جد...تلك الصبية عاشقة، أتمنى أن لا تدفع حياتها ثمنا لذلك.


كنا نقبع صامتيْن، أنا وربيعة ذلك المساء، ثم شرعت تتفحص ما تبقى من لوحات معلقة على صدور القواطع الخشبية في الصالة، تحاول الربط بينها، وبين أمر ما، تجاهلتها تماماً، كانت تصر على أن أشاركها بعض النظريات التي تقوم على أسس علمية، وأن أقنع بها على تلك الطريقة وليس على طريقة العرافات وقرّاء البخت... فلم تفلح، امسكتُها من يدها واشرت، لمشفى "اللوزميلا" المجاور وأنا أؤكد لها : بأن "ميرا" تعاني مرضا غامضاً...وهذا مما لاشك فيه، لكن الحقيقة - التي انتظرها - تكمن هناك، وانه بمجرد العثور على تشخيص طبي دقيق للحالة، فإن "ميرا" ستخضع لبرنامج علاجي حتى تشفى...وينتهي الأمر...، عدلتْ ربيعة عن محاولاتها، ولاذت بموسوعة الأساطير تقرأ في صمت.


(13)


بلغ الشوق لميرا حدوده، بعد مرور سبعة أيام على الغياب اخذتُ أرقب عودتها بصبر نافذ، فلم ادرك في ذلك الصباح المختلف سر الروائح الكريهة التي داهمتني، وعبرت عنوة من خلال النافذة لبيتي في حي "الاشرفية" لأصحو باكرا وقبل الأوان، ولا لتلك الإختناقات المرورية الغامضة التي ضجت بها شوارع العاصمة على حين غرة...لكنني ادركت سريعا بأنه النحس لهول ما كان بانتظاري وانا أعبر فيلا ميرميد، كان وجه "ربيعة" المتغضن يعكس خيبة ما ويمهد لما هو اسوأ، بدت فاقدة لحماسها المعتاد أيضاً، تقدمت نحوي وهي تقول: ليس هناك من اسطورة حية، من الصعب أن أصحو اليوم بعد هذه السنين لأقف على حقيقة جلية كهذه...، رددتُ في توجس: أية حقيقة تلك؟


- بأنني أضعتُ الكثير من سنيني في بحث عبثي قادني إلى هنا ذات يوم...


- لم افهم يا "ربيعة"...


دفعتْ باحدى الصحف الاسبوعية نحوي، وهي تشير إلى صورة ملونة إحتلت نصف المساحة المخصصة للصفحة الأخيرة، تذيلها تعليق مقتضب...الأستاذ برفقة تلميذته الموهوبة، إستراحة المبدع بعد حصد النجاحات، فماذا بعد؟... حالة من الغثيان شملتني، كنتُ اصغي لربيعة ولا اعي ما تقول: كان على "ميرا" أن تدفع الثمن...أدركت هذا منذ البداية، لكن لم يخطر ببالي أن يكون باهظاً إلى هذا الحد...، كانت الصورة تُظهر بوضوح الاستاذ "جاد" بزي البحر مستلقيا على ظهره يداري جسداً منهكاً فوق كرسي طويل، وإلى جانبه "ميرا" تراخت إلى كرسي مماثل بزي مثير لكنه يستر كامل الجسد. كانت خلفية الصورة تشير إلى منتجع "موفنبيك" على شاطيء البحر الميت، هبت روائح الصباح الكريهة على إثرذلك، وعلا نفير الحافلات في رأسي، ولم أفق إلا في اليوم التالي...لأصحو وقد إستحالت الأشياء إلى اعاصير مدمرة من حولي، والرؤى إلى صخب مفزع.


في الخيانة، يروق لنا أن نُمعن النظر إلى عيني من نحب فيما نحن نرميه بالرصاص، وهذا ما كان مني، حين تذرعتُ بالذهاب لمرة أخيرة صوب "فيلا ميرميد"، كي أصحب "ربيعة" إلى المطار بعد أن حسمتْ أمرها بالعودة إلى "المغرب"، هرعتْ "ميرا" نحوي كعهد أيامنا الأولى، تجاهلتها وكأني لا أراها، أشتقت لكْ...قالتها، لكني لم أصغِ او التفتْ، واصلت خطاي نحو "ربيعة" إلى داخل الصالة وهي تحزم ما تبقى من متاعها القليل، واصلت "ميرا" بنبرة خافتة وحشرجات متلاحقة: ليس لي غيركم وكان علي أن أصحب شخصا أثق به سواك، شخص لن أراه مرة أخرى... وليس له الحق في ان يراني في أوضاع غير لائقة...، أصغينا لما قالت لكننا لم نعقب او نلتفت نحوها ايضاً، تأبطت "ربيعة" كراسات وكتب كثيرة، وحملتُ أنا الحقيبة، سرنا، لحقت بي "ميرا" عبر الحديقة، أفضت بصوت مبحوح أخذ يخبو تدريجيا: يمكننا أن نتشارك حوض السباحة، منذ اليوم، والطابق العلوي إن شئت...ولما واصلتُ صمتي، إرتمتْ هي على مقعد هناك، نظرتُ إليها للمرة الأولى، كانت كتمثال، بملامح باردة، تحدق في نقطة بعيدة، إنحنتْ نحوها "ربيعة" قبلتها قبلة وداع خاطفة، على بوابة الفيلا كنا نلقي السمع لآخر ما تلفظت به "ميرا" من كلمات، بصوت مخنوق: أكان يجدر بي إطلاع الصحيفة على حقيقة مرضي، وبأنني في رحلة علاجية...؟


رحل الأستاذ "جاد" ولم يعد، وفارقتنا "ربيعة" إلى غير رجعة، أما أنا فأوصدتُ خلفي جرحاً وباباً كان يقودني ذات يوم إلى "جبل اللويبدة"، جبل الأرواح العاثرة، ولم يبقَ هناك متسع "لميرا" عند الشرفة المطلة على قاع المدينة لتشيده برفقة العرائس البتول في ليلة الزفاف...غير لافته صغيرة " ميرميد مرسم وجاليري"، أجمع الكثيرون على انها لم تضاء بعد ذلك اليوم، وبأن رياحاً عاتية هبت في ذلك الشتاء، عصفت بأركان الجبل ذات ليلة عمانية، ولم تتوقف إلا مع ظهيرة اليوم التالي، ليتنبه البعض بأنها قد إجتثتْ تلك اللافتة تماما والقت بها بعيداً...


(14)


اعتدلت لمياء في جلستها وهي تعقب قائلة: منذ متى حدث هذا؟


- منذ خمس سنوات... كما أن للقصة بقية...


جحظت عيناها غير مصدقة: وكيف ذلك؟ حقاً هناك ما لا أفهمه في قصتك... فأنت في الخريف من كل عام تشتري علب "الماكياج" الباريسي، و"البارفان" المفضل "لميرا" ثم تذهب في إجازة قصيرة إلى "عمان" لتعود بعدها محملا بالكآبة، فلمن كنتَ تبتاع تلك الهدايا؟


- أذهب في الخريف من كل عام إلى "فيلا ميرميد" أدفع الباب بيدي، يلفحني هواء الصالة الثقيل، أطالع بقايا اللوحات المرسومة والتي ظلت معلقة هناك، ولا أميز بينها فقد كانت "ميرا" ترسم حوريات بلا أثداء، وكان الأستاذ "جاد" يرسمها هي، أشعل، موسيقى "طارق الناصر"، حلم رم...لأستحضر ما فاتني، أضع "البارفان" وعلب "الماكياج" على النضد المجاور لكرسي الأميرات، ثم أغادر، اعود في الخريف الذي يليه، لأجد الهدايا في مكانها وقد كستها طبقة سميكة من الغبار، وهكذا...هذا الخريف لم يبق متسع للمزيد على صفحة النضد...


- أيضا لم أفهم... لم تلك الهدايا وذلك الإنتظار لفتاة لا تستحق؟


- ألم أقل لكِ بأن للقصة بقية؟ فبعد بضع أسابيع على تلك الحادثة، وتلك المواجهة في "فيلا ميرميد"... كنتُ اتلقى إتصالا من مشفى "اللوزميلا"، يفيد بضرورة حضوري نيابة عن "ميرا"، كنتُ ألمح عيني الطبيب تراوغان خلف زجاج نظارته السميك، ولسانه يمهد لحقيقة ما، راح يقلب أوراقا كثيرة في ملف أصفر، كتب عليه إسم "ميرا"...قال: حالة الآنسة "ميرا" مع كل أسف تم تصنيفها من ضمن الحالات النادرة ...والنادرة جدا، والتي يقف الطب عاجزاً عن فعل أي شيء أمامها...هذا ما أفضتْ به النتائج وبشكل حاسم...طلبتُ إليه أن يوضح أكثر، فأردف محاولا تبسيط حالتها: خلل وظيفي في أداء الغدد يدفع بهرمونات غير مألوفة وبمعدلات أعلى مما هو معتاد، تصاحب حالة التهيج الحميمي مما يسبب إرتفاعاً في ضغط الدم، وبالتالي حدوث النزف الدموي عند النهايات الحسية، هذا يجعل من الامر اكثر تعقيدا، الزواج فيه خطر عليها، لذا عليكم إرجاؤه...، كان ذهني يتحرر من عقدة المواجهة الاخيرة مع "ميرا" لتصفو صورتها على صفحة رقراقة ولكن بأقصى ملامح مؤلمة...قلت له باندفاع: ألا ينبغي لها معاشرة الرجال؟، كان رده صارما وحاسما: هذا مستحيل... فالإثارة الشبقية قاتلة...مهلكة، وفقاً لحالتها. كنتُ اغادر المشفى، تشدني الرغبة لشيء ما قد فاتني...لأن أراها لمرة اخرى، لأجدد سابق عهدي حين كنتُ أرى وجهي في تراب قدميها... لكني بحثتُ عنها في كل مكان ولأشهر طويلة، فلم اعثر لها على أي اثر، كانت قد تلاشت تماماً، كأن لم تكن، ضاقت الدنيا بما رحبت، فقررتُ الرحيل، أغلقتٌ مكتبي هناك، واذعنتُ لفكرة السفر، كان التعاقد للعمل قدراً كي التقيكِ هنا، في دبي... لمحتُ دموعاً تراقصتْ في عيني "لمياء"، وهي تنهضْ بخطى ثقيلة، وتغادر بلا استئذان...رحت أرمقها وهي تتهادى بين المقاهي المتناثرة على ضفة الخور...حتى توارت تماماً... عدتُ وحيدا لكني إغتسلتُ بالضوء من سطوع الملامح ومما أورثته السنين، تخففتُ من حملي بأنانية معتادة لتنوء به "لمياء"، وعدتُ وحيداً أحدق في الفراغ وانتظر عودة أخيرة لحورية الماء... بيد انها غافلتني ككل مرة، ولم تعد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


2/12/2010 - الدمام





14‏/09‏/2010

دير طامينا - قصة قصيرة



قصة – دير طامينا


في القاعة الرحبة، وتحت قبة الدير المعلقة في الذهن كأيقونة، كنتُ استأثر بولع المشاركة، في رحاب الجمعة العظيمة، والتلبية بحضور طوعي إلى "غداء التقشف"، وفيما تركض الريح المقدسة كمهر خارج السور، لمحتُ التلال وهي تنحدر عن خصر "رام الله" لتهرع نحونا، رأيتها تخلع عنها زيتونها القديم، ومشمش قريتي "جفنا" لتطفر من عينيّ أمام الحضور كدمع اللهفة، أبصرتُ ما هو أغرب في لمعة القلادة ذاتها والتي اضعتها ذات يوم في باحة الدير، قلادة الصليب المقدس حول عنق الفتاة العشرينية شبه معجزة، بماذا أبرر لخمسة عقود ونيف أهرقتها في البحث عنها، ترى هل اصدق ما أراه، أم أن عيناي قد خانتاني مجدداً؟ وإن يكن ما أراه حقيقياً، وانها ذات القلادة المفقودة، فهل بوسعي أن أكترث، بعد هذا العمر؟ فأخرق هدنة أبرمتها سنواتي الاخيرة مع الماضي، بعد أن أمسك عن ذكرها كل شيء ومنذ زمن بعيد، ولم يبق أحد ممن يذكرني "بميرنا"،...لهذا فقد أذعنتُ، رفعت يدي وكففت سمعي، ولم أعد أبحث إلا عن هدوء الخاتمة...


لم أدرك بأن المسافة الفاصلة كانت قصيرة إلى ذلك الحد ، وانها بمقدار عرض المائدة والأطباق فحسب، حتى تسلل إلى سمعي الواهن صوت تلك الفتاة في نزق: هل هناك خطب ما، هل تعرفني يا عم؟! نزق رصين، وطبع ألفناه عن ابناء الجالية في المهجر... لم اصدق هل كنت أحدق طوال الوقت بمقدار تلك المسافة إلى صدر تلك الصبية،... المعذرة يا أبنتي... رددت وانا أرمق وجهها وعينيها بتمعن وارتباك، أشاحت، بامتعاض، وراحت تعبث بحبة زيتون في صحنها على المائدة... لن أبادر بالسؤال، لن أنكأ جرحاً قديما تكفلت بدمله السنين، لكن القلادة تخص غيري، وليس اقل من هدأة الروح لتلك المراة الصالحة " أم حنا"، كتكفير أخير عن أول ذنب اقترفته... فماذا بوسعي أن أفعل لها، هل أستعيد القلادة؟ أم أنسحب؟ استعنت بعكازي في النهوض عن كرسي المائدة، شملتُ المكان بلمحة خاطفة، فلم تفضي الإحاطة إلى كرسي شاغر، كل الموائد مشغولة تضج بهمس الحضور، تخذلني ساقاي من جديد، فأتعثر واوشك أن أسقط، يهرع البعض نحوي، تسبقهم إليّ تلك الفتاة العشرينية كونها الاقرب، تعدل عن صيحة مفاجئة، إلى بضع كلمات غريبة تنطقها بلغة المهجر، وهي تتلقف قامتي بين ذراعيها، توخى الحذر يا عم...همست في أذني فأشعلت حنيني، لذراعيها دفء المسرات وعبق الماضي الذي تحول، لم أرغب في فراقها، ولم ارغب في البقاء، تملكتني حسرة قديمة ودموع مفاجئة أخذت تحتشد على إثر ذراعيها لم أرغب أن تراها... حسمتُ نيتي، فغادرتْ.
خمسة عقود وانا ارفل بالخطيئة، وجدار الدير القديم يتململ في الغياب، يحرك ظلاله الراكدة في شراييني بقسوة... كي لا انسى، ورائحة الخبز الطازجة، الممزوجة برماد " الجفت" والحصى، في فناء ذلك الدير... تفور مع انقضاض الصباحات الكئيبة على بقية الوقت، أمي كانت هناك تعجن للفقراء، تفترش الرمل وحشائش الباحة، وهي تقلب لهم خبزهم، كفاف يومهم، فوق حديد الصاج أو على حجارة الطابون، وحين يلفح وجهها لظاه يتورد كبرتقاله... على صدى جوقة التراتيل أراها تغمض عينيها تستحضر وجهي ثم تشرع بالصلاة، والدعاء.
خلف ذلك الجدار القديم للدير، وتحت شجرة سرو معمرة، ارتكبت خطيئتي الاولى، كنتُ يافعاً، لكنني لم أسلم من التقريظ، اعترفت "للأرشمندريت" بعد أن ضبطني متلبساً في حينها، كان برفقة بعض الشمامسة يجوب الباحة الخلفية، فطهرني بالعقاب...وأمدني بالنصيحة " عليك أن لا تسطو على تفاح غيرك"... هل تفهم يا بني؟... نعم يا أبتي، وأقسم بأنني لن أعود لهذا مرة أخرى...، لكنني تماديت في تبريري ، فأضفت: بأن وجنتيها كانتا هما السبب، وكيف أنهما أتقنتا فن الغواية...فأوقعتا بي، لهذا قبلتهما بذلك الشغف.... تأملني "الأرشمندريت" وهو يهش عن وجهه شبح ابتسامة عابرة، ثم قال في هدوء: ألم تكن بصحبة المرأة الصالحة في عظة اليوم... بلى ...رددت في وجل...حنى قامته حتى صار في مواجهتي : إنها تحيك الصوف لفقراء الدير بلا مقابل، إنها صالحة بحق، هل أنت ولدها؟ بلى يا "أبتي" ...ما اسمك؟ ..."اسمي حنا..." "يلزمك بعض التهذيب يا حنا..." قالها وهو ينسحب في مهابة وأنا أرمق صورتي في ردائه الأسود الفضفاض، أشار لأحد "الشمامسة" فاندفع الآخر نحوي، امسكني من يدي، امتثلت له بلا تردد، باشر في تنفيذ العقوبة على الفور معقباً بأنها ستدفع عني مغبة الخطيئة...وسوف تقودني إلى الخلاص. كنستُ القمامة في الباحة الخلفية للدير حتى أقبل الغروب، ثم عمدتُ إلى جمع أوراق الأشجار اليابسة المتناثرة وتكديسها في اكوام،... كل ذلك وانا مشوش الذهن، يجتاحني قلق خفي على "ميرنا"... وجهها المتفتح كنوار الحقول في "جفنا" والضفيرة المجدولة لم يفارقاني، وشهد خديها الذي بلل شفتاي منذ ساعات قليلة ظل عالقا، أتذوقه طوال الوقت، استعيد التفاتتها نحونا وهي ترشح خجلاً، وخطاها العاثرة وهي تفر من أمامنا نحو باب الدير، ثم وهي تسابق الأزقة في أحياء "رام الله" نحو فندقها الكبير "فندق عودة" بلا دليل، ترى هل وصلت إلى هناك، أم انها أضاعت الطريق إليه؟
"الشماس" المكلف بمراقبتي، يرمقني بعطف، لكنه يحثني على المواصلة، اجلس تحت نفس "السروة" لبضع دقائق، فيستلني الوقت من تحتها كفراشة.
حقا لقد كنا نطارد الفراش منذ قليل، نسابق الأزقة في توسل صاخب كي لا يحلق مبتعدا فوق أشجارها الوارفة، نستل أعواد الرياحين الناتئة عن حواف أسوارها الحجرية، ، نلوح بها في الفراغ قبل ان نتبادل فرك اطرافها الطرية العابقة بانوفنا الصغيرة، لأحياء رام الله الوادعة في قيلولة الظهيرة مذاق الحكايات القديمة، طفنا مع سحرها المذاب في صدور الامهات حتى بدى لنا الدير غير بعيد ، لم يلبث أن طالعنا ببوابته الحديدية وأغصان أشجاره المترهلة كخميلة وهي تستريح على سوره الحجري القديم، عبرنا خلسة، أمام جذع السروة الضخمة، كنتُ أشير إلى حيث يجب عليها أن تحفر إسمي بدورها، اغمدت طرف السكين الصغيرة في صمغ اللحاء إلى جانب اسمها، ثم شرعت بترديد الحروف إلى جانب النقش، حتى اتمته،... الآن... ما يجمعه الرب لا يفرقه الإنسان يا "ميرنا"... همستُ لها، صدتني بيدها في دلال وهي تقول: ليس بعد، ينبغي عليك أن تقوم بالمثل... هناك على جذع السروة التي تنتظر في دير "طامينا" بيافا، أعرف ولكن ... كل الحق على "ام حنّا" فهي تأبى اصطحابي إلى هناك... قلتها في ضيق، غمرنتي بعينيها، فاذعنتْ وانا اواصل: تتذرع بخشيتها من تدهورالاوضاع بين العرب والإنجليز خصوصاً بعد قرار التقسيم من جهة، ومن عصابات الصهاينة االمسلحة...من جهة أخرى... يا "ميرنا"... لم تعلق، ظلت عيناها تفيضان حنيناً كأيامنا الخوالي، وجنتاها اللتان تغذتا على "مشمش" قريتي... "جفنا"، تنضحان الآن امامي بخلاصة الندى ولون الزهر في نيسان، نزعتُ عن عنقي قلادة الصليب طوقتها بها، بدت اكثر القاً وهي تراوح بين يديّ، فقبلتُ الزهر في وله وانا اهفو لمشمش الخدين، حين لاح قدس "الارشمندريت" برفقة الشمامسة، لتفر من بيننا، مبتعدة، بقلبي وبالقلادة...
لم يكن لتلك القلادة وجود، قبل ظهور ذلك الرجل الغامض بقبعته الغريبة السوداء والتي تشبه إلى حد ما ذيل غراب القاق، عندما حط بأسماله الرثة على ارضنا أمام غرف العقد المتلاصقة وسط الفناء، وما رافق وصوله من ظواهر ملتبسة، شمس الظهيرة من شهر أيلول ككل يوم في قريتي "جفنا"، لكن أفراخ الدجاج تراكضت فزعة في كل الإتجهات فرت من امامه إلى خارج الفناء، حين جثا على ركبتيه خالعاً قبعته امام والدتي في خشوع مهيب، لتخمد أصوات صغارها خلف السلسلة الحجرية مرة واحدة، ليومين لم نفق إلا بعد أن إلتهمتها جذوع شجيرات الصبار والعوسج الشوكي، ريشها العالق كان الدلالة الأكيدة على ذلك، لم أفهم كيف تحولت امي أيضاً إلى إمرأة باكية في لحظات، وكيف قصف الرعد سويقات ثمار المشمش المستكاوي على امهاتها المحيطة ببيت العقد في تلك الظهيرة فلم تثمر بعدها لعام كامل، جذبتني يد قوية من أمام جذوع الصبار،ثم تناقلتي الأيدي في عطف، كنتُ في السابعة من عمري، لكنني لم افهم... رحل الغريب بقبعة الذيل، واكتظت غرفنا بنساء القرية اللواتي شرعن بتبادل الإلتفاف حول امي الباكية يربتن على كتفيها بعيون دامعة، ثم تمضي السنين ثقيلة لتجلب بمقدار ضئيل ما يكفي لفهم طفل، اعدت الحكاية على اسماع "أم حنا" وهي تخلط الجفت بالقصل لتهيئة التنور في الركن القصي للفناء ...نصبتْ قامتها ثم شردتْ لبرهة، في استعادة خاطفة لذلك الماضي القريب، قبل أن تصحح بتلويحة غاضبة فيها من اللوم الشيء الكثير : الرجل كان يرتدي قبعة خواجات...اهل البحر، ويومها لم ترعد ولم تبرق...كنا في الصيف يا ولد، لكن الرعونة التي جمعت بينك وبين رفيقك إبن الشيخ محمود هي التي قصفت أمهات الثمر على شجر المشمش حين رششتموها بجفت الزيتون الحار، أما أفراخ الدجاج فأنتما أيضاً من دفع بها إلى متاهات الشوك حتى نفقت...جذوع الصبار لا تأكل ولا تشرب...يا فهيم... حنت قامتها نحو التنور، ولم تعد للتهيئة فقط جلست هناك بسيماء حزينة،احتوتني في حجرها لتهمس لي: ذلك الرجل جاء ليعطيني قلادة الصليب...او ما تبق من والدك، بعد أن إبتلعه البحر في بور سعيد ....
تلوح قامته الفارهة في فضاء الغرفة وهو يزهو ببنيته القوية، رغم أنها تتوارى خلف ضباب كثيف في ذاكرتي كصبي، يتردد صوته في حديثه الصاخب إلى امي: ليس لنا أرض كالبقية في "جفنا" حتى نعتاش من فلحها...بيت العقد هذا والحقل المجاور كل ما املك...،كيف يطاوعك قلبك أن تتركنا وحدنا أنا وهذا الطفل يا "راجي"، ترد أمي في توسل، وحين تفقد الأمل، تلجأ لأقرب الجيران لتستعين به في إقناع والدي، ما زلت أذكر سبحة الشيخ محمود، وهو يسدُ المنافذ في وجه والدي، ليثنيه عن السفر: يا راجي "في السماء رزقكم وما توعدون"...، بلى يا شيخنا هذا صحيح... لكنه السعي، فقط أنا اسعى لذلك الرزق...ألا يقال أيضاً " وقل إعملوا..." يزهو بحجته من جديد أمام صمت الشيخ، ثم يضيف إلى مبرراته: الإضراب الكبير الذي عم فلسطين كلها، إنتهى منذ خمس سنوات، ولم يرحل جندي إنجليزي واحد، لكنه أعيانا نحن يا شيخي، تراجع العمل في ميناء يافا ولم يعد كالسابق...وانا لا اتقن غير مهنتي في عتل البضائع...
مع أولى خيوط االشمس المبللة بندى الحقول، من شهر حزيران، ايقظتني "ام حنا" لامضي برفقتها، سلكت بي درباً وعرة أفضت لتلة تطل على بلدة "بير زيت" تسلقتها "أم حنا" بهمة عالية، كانت يدي في قبضتها بينما تأرجحت سلة مملوؤة بالمشمش المستكاوي بلونيه الاصفر والاحمر في يدها الأخرى، أوحت قسماتها العابسة بجدية الامر، في "بير زيت" وفي بيت مكون من طابق واحد كنا امام رجل نفض عن وجهه غبش الصباح للتو، دعانا لصالة رحبة حفتها ارائك بألوان زاهية كتلك التي يتميز بها أهل المدن، لتشرع "أم حنا" بموجة جديدة من توسلاتها: وحدك من يقدر على إقناع "راجي" بالعدول عن السفر، كما تعلم ليس لنا غيره انا وهذا الطفل...أرجوك خواجا "حبيب"...،اشفقتُ عليها اكثر من أي وقت مضى، وهي تتجرع رداً لم يكن في حسبانها، كان بمثابة الصعقة، وهو يؤكد في برود: كيف يمكنني ذلك؟ وانا من اقنعه بالسفر...وسعى له بتلك الوظيفة...، مضى زمن طويل وانا أستحضر كلماته الباردة، السمجة، تلك التي ارتبطت بدفء آخر، قادني لخطيئتي الاولى ثم الثانية... كنتُ اراها للمرة الاولى حين أقبلت برداء النوم، لتنضم إلينا، كانت في مثل عمري، لم اكن قد رأيتُ طفلة بمثل طلعتها، لها طلة تأسر النظر كأنها البدر في ليالي "جفنا" حين يحلق فوق الكروم ، لبثنا نتبادل نظرات لا معنى لها، ثم تحولتْ إلى سلة المشمش، شهقتْ للّون على مسمع الكل... أذكر إغماءة الشهقة لحظتها حين تبدى شَبَهٌ لافت بين وجنتيها ومشمش قريتي...
كنتُ بدأتُ افتقد لقامته وهي تجول بين غرف العقد والباحة، فادركتُ أن "راجي" قد رحل، وان "أم حنا" قد كبرت عشرين سنة اخرى، لم تعد تهش في وجهي، أرخت "شالاً" إضافيا على رأسها ووجها، لكنه لم يكن ليحجب الكثير من بعض الدمع ورباطة الجأش لديها، في ليالي الصيف كنتُ أدس جسدي تحت غطاءها في حذر، فتحضنني بعينين مغمضتين حتى الصباح، لم أشرك احداً بسر ذلك الشبه المؤرق بين "ميرنا" ومشمش "جفنا" سوى رفيقي الوحيد..."سعدي" ابن الشيخ "محمود"، أشار في لحظة توهج نادرة: تلتقيها امام المدرسة في بيرزيت... ساكون برفقتك، ثم نقرر ما نفعل... كنا قبلها نبدد الوقت بين الحقول نمشط الطرقات المعشبة، أو نسطو على ثمار الحواكير السائبة في "جفنا"، وغالباً ما نوقد النار في أكوام أعواد القصل الجافة، ثم نفر، إلى أن وقعتُ أسيراً بين خديّ "ميرنا" صباح ذلك اليوم الحزيراني..، فلم يعد بي رغبة لكل ذلك، وجنتاها ثمرتا مشمش طازجتان...لديك كل الحق،إكتفى "سعدي" بهذا الوصف وهو يحدق إليها في استغراق أمام مدرسة الراهبات في بير زيت، تخلفتْ "ميرنا" عن الركب في طريق العودة، حين رأتنا، كنا نهبط الوادي نحو "جفنا" ، أما هي فأرتقت إلى التلة المشرفة، درجت فوقها كطائر حجل، دون ان تشيح ببصرها عنا، شيعتنا حتى توارينا خلف اشجار الزيتون على مشارف القرية، مضت في تفاوت لكن على نحو مماثل أيامنا التالية، حتى أستوقفتني ذات يوم في منتصف الطريق بين المدرسة الاهلية ومدرسة الراهبات، حدثتني بثقة مفرطة، امام عرق بارد نضحه جبيني، مشينا بعد أن خلصتني مما حولي، مررنا بمعمل المجدلاوي للنسيج، حتى وصلنا لمفترق الطريق والذي يؤدي "لجفنا"، هناك حدثتني عن شغف لا مثيل له بمشمش قريتي، وانها قد اتت على سلة المشمش بمفردها بنهم...في ذلك الصباح...، سردت ما حدث على "سعدي" فأطرق ولم يبد مشورته كالمعتاد، لكنه طلب وقتا للتفكير، وقال وكأنما يحدثُ نفسه: طبعا هي لا تعلم بأن موسم المشمش قد ولى ويجب عليها الإنتظار لسنة أخرى...وفي الوقت ذاته علينا أن نلبي لها رغبتها...، بانتظار لحظة إشراق او توهج فكري، مضى "سعدي" لبيته، وانا بقيت ساهما، أرقب قرص الشمس وهو يغطس بوهج برتقالي خلف البحر وراء الافق البعيد.
في اليوم التالي وفي المكان ذاته، وأمام همس العاملات في معمل النسيج، كان يعز على قلبي أن تعبث الخيبة بترتيب الملامح على صفحة وجهها... لكنها تداركت الأمر رأفة بي...لأستعيد القليل من تلك النضارة: حدثتني ذلك الصباح عن كتاكيت وافراخ ملونة تسرح في فناء بيتكم... أليس كذلك؟


- بلى...


- هل لي ببعضها...


- بكل سرور


لكنها لم تكن تعلم بان الحصول على مشمش "جفنا" بعد أوانه، هو أسهل بكثير من أن تتخلى "أم حنا" عن فرخ واحد،...تمليتها بنظرة فاحصة، فمنحتني جذور ابتسامة رسخت عميقاً في شغاف قلبي، ومضيت بسرّي حائراً أطلب العون من رفيقي، لكنه ظل صامتا في طريق عودتنا، أمام سلسلتي بيتينا المرصوصتين بالشحف الصخري، وتحت شجرة "الجميز" المتفرعة، كان يجود بالكثير حين خرج عن صمته في ظل إشراقة مفاجئة، حين قال: ستحقق لها الامنيتين معاً...


- كيف؟


- دع معالجة سويقات ثمار المشمش لي، فقط اطلق سراح أفراخ الدجاج من القن ثم طاردها في الفناء، تلك الأفراخ سوف تفر من خلال الجزء الخلفي المسيج بأشجار الصبار...فهذه السلاسل سوف تعيقها حتما، ساكون بانتظارها على الجانب الآخر ... فلا تخف.
في ذلك اليوم أبرقت السماء وارعدت، في أيلول، وأنا أرى للمرة الاولى قبعة كذيل غراب تخفي رأس رجل غريب، وقلادة لصليب معلق بسلسلة فضية، رصعته الحجارة الكريمة ببعض ألوان قزح، لتنهمر مطراً سخياً على خدي "أم حنا" ذرفته السماء في صمت...
الشماس المكلف بمراقبتي في باحة الدير بدأ يأنس لوجودي، شاركني لحظات التأمل، ثم الجلوس إلى جانبي تحت السروة، هل ذهبتَ بعيدا؟ سألني بلطف بالغ...إلى نحو سبع سنوات خلتْ...،اجبته، حدثني عن رداءة الاوضاع بعد مشروع التقسيم، ما لم اعرفه، هو أن الانجليز قد شرعوا فعليا بالانسحاب من المدن الكبيرة بفلسطين، توسمت خيرا، ولاح طيف "ميرنا" مصحوباً بأيام اكثر بهجة، لكنه افصح عن مخاوف تشغل الجميع: الخشية فقط من ذلك التواطؤ بينهم وبين عصابات اليهود...لم افهم ما يعنيه، لكنه تابع... الأثنين القادم سأغادر إلى يافا بسيارة الدير كي اطمئن على والديّ... بدا قلقاً، أما انا فقد جرفني طيف "ميرنا" نحو ذلك اليوم البعيد، إلى النزهة المعتادة واليومية، برفقة "ميرنا"... من ملتقى مدرستي الراهبات والاهلية للبنين وإلى معمل المجدلاوي للنسيج في "بيرزيت"، تضمني "أم حنا" إلى صدرها... تحت طائلة التقريع من بقية النسوة في العمل: صار شاباً لا يليق بك أن تبالغي في دلاله... في الثانية عشرة من عمره الآن...، تقبلني، تسألني عن يومي، ثم تسلمني مفتاح العقد قبل أن تعود "لنول النسيج"، لأمضي إلى "جفنا" برفقة "سعدي"، مودعاً "ميرنا" عند نفس التلة، لتقفل وحيدة في رجعوها إلى وسط بيرزيت... خطفت عقلك إبنة الخواجا "حبيب"...تقولها بسخرية ولكن بمكر، لم تصفى بعد "أم حنا" لتلك العائلة، تحملهم بعضاً من مسؤولية موت "راجي" ، على الرغم من ذلك الشعور العارم للخواجا بالذنب، ومحاولاته للتكفير عنه قدر المستطاع، فقد تدبر عملا مريحاً "لأم حنا" في ذلك المعمل والذي يمتلكه مناصفة مع الحاج "المجدلاوي"، بدأتْ مشرفة على العاملات هناك، لينتهي بها الامر –خلال فترة قصيرة - كمسؤولة أولى عن إحتياجات المعمل من الصوف وصيانة الأنوال، مما اتاح لها فرصة النسج وعلى نفقتها الخاصة لأبناء الفقراء من رواد الاديرة المجاورة...هل هو خواجا يا امي...سألتها ذات يوم في فضول...لترد في استخفاف...من أين له ذلك...حسرة عليه، هو فلاح إبن فلاح ومن "جفنا"، لكن...، تلفظ تنهيدتها المعتادة قبل أن تكمل ...فقط لأنه تزوج من يافاوية، نساء يافا يكتحلن برماد الجنيات يا ولدي... فأحذرهن...، كيف؟، أنطقها ببلاهة الصغار... يا ولدي، ظلت تكتحل له حتى سلمها زمام الطاعة، باع ارضه وبيت اجداده، ليسكن بها بلدة "بيرزيت"... ولن تقف عند هذا الحد..صدقني ستسحبه معها إلى يافا ذات يوم.


تحل العطلة المدرسية، فترتسم البهجة على وجوه الجميع، الصبية والكبار، إلا أنا...فلم تكن لتنشر حولي أكثر من شعور ثقيل بالفقد والحرمان، ليغدو أكثرها قسوة ذلك الحرمان من متعة التنزه برفقة "ميرنا"، يتهيأ الجميع في "جفنا" لموسم قطاف المشمش، ثم تليه "الحصيدة" لتبدأ حكايا الجن وأمنا الغولة في سهر الليل الطويل حول الفوانيس على بيادر القمح والشعير عند أطراف البلدة، ترتسم على وجه "سعدي" ملامح جديدة مختلفة مفعمة بحب السهر وروح المغامرة، كنتُ الوحيد الذي يعود إلى صدر أمه في المساء، أقفز إلى حضنها حين يجن الليل، وحيدين كنا نطارد بعيون ناعسة ذبالة المصباح وهي تذوي مخلفة ظلاً باهتاً على الجدار قبل ان نغفوا...






أواخر الأيام، والتي سبقت عطلة الصيف، بدت لي "ميرنا" ساهمة وحزينة، تطيل من فترات الصمت خلال نزهتنا القصيرة، قبل ذلك، شرعت تزج بأحاديث جانبية عن "يافا" بلا مبرر، ثم لم تلبث أن غدت موضوعها الأوحد والمفضل، حدثتني عن بحرها المالح، و بيت جدها لأمها في حي "أبو كبير" بالقرب من كنيسة "طامينا"، عن بيارات البرتقال وسوق "بسترس" والحانوت الذي يملكه جدها هناك، عن شارع سانت جورج وميدان الساعة، عن مدرسة "تراسنطة" و الإحتفالات السنوية على نهر النبي روبين...حتى إنقضت أيامنا تلك ولم يبق إلا يومنا الدراسي الأخير، عند مفترق التلة بدت أكثر حزنا من أي يوم آخر، قالت: غدا سأذهب ليافا برفقة والديّ...، أعلم...أليس هذا برنامجاً سنويا لديكم؟ كنتُ اعقب مستنكرا حزنها... لكنها لم تمهلني، فقط أشاحت بوجهها لتقول: ربما يختلف الأمر هذه المرة...ثم راحت تجري مبتعدة، لم تنتظر عند التلة كعادتها حتى نتوارى، ولم تودعني...






ولت أيام الحصيدة وموسم قطاف الفاكهة، وحين اعتدل الطقس في الليالي المقمرة، شرعت ام حنا كغيرها من نساء القرية بالتحضير لجمع المؤونة وتخزينها لموسم الشتاء، عمدت إلى تجفيف العنب بعد دهنه بالزيت، فرشت نبات البلان على سطوح غرف العقد تمهيدا لنشر الفائض من ثمار التين، واظبت على طحن القمح وخلطه بالذرة البيضاء لأيام، عمدت إلى تحضير الاواني وجرار الفخار لخزن "الزبيب" و " القطين" والدقيق والدبس والمربى، كل ذلك بعد أن تعود من معمل النسيج.






هكذا أنا دوما، كلما فاجأني خبر صاعق، إجتاحتني الهواجس ليغدو الكثير منها أحداثاً ملتبسة، ففي صباح ذلك اليوم التشريني... كنتُ أجمع بعض التين المجفف في حقيبة القماش المدرسية "لميرنا" مع أول يوم لنا في المدرسة...حين لم تتوان "أم حنا" عن إفراغها بعد أن خطفتها عنوة، وهي تكرر بقسوة على سمعي أشياء يصعب تصديقها عن "ميرنا"، ويصعب على واحد مثلي ظل يحلم وينتظر لأيام طويلة مرت كالجبال لتنسف حلم إنتظاراته في لحظة، رأيتُ بعدها "راجي" للمرة الأولى بعد رحيله، وهو يعبر الفناء بقامته الطويلة، ثم وهو يرفعني بين يديه، وحين أدعوه بأسمه تنهال أصوات غريبة من حولي، ليبدأ بالالتفات من حوله في فزع، يهرول حين تقترب منه أمي فأصرخ به أن ينتظرني كي أذهب معه فلا يصغي إلي... لا تلتفت إليه "أم حنا" بدورها وهي تسرع نحوي برفقة إمراة اعرفها...الحمى سلقتْ جسده يا أم "سعدي" ...يهذي منذ الصباح...ماذا افعل بحق الرب، يا يسوع ألهمني... تبدل كمادات الماء البارد، إذا إنتظرت "بترسون" حتى يمر بالمركز الصحي في موعده الأسبوعي... سأفقد الولد...عندها سأفقد عقلي...، حالته ليست سيئة يا "ام حنا"، خوفك لا مبرر له سوى أنه ولدك الوحيد... على أي حال سأرى ما يمكننا عمله لخفض الحمى، ثم تتركنا "ام سعدي" وتذهب...مسحتْ جبهتي بالميرون المقدس، تناولت قلادة الصليب المرصع بالخرز من غياهب الصندوق الخشبي ، علقتها في عنقي، لم تكتف... خرجت مسرعة تتعثر في خطاها لترجع بالشيخ محمود والد "سعدي"، ليجلس عند رأسي، كان صوته جميلا ورخيماً ظل يتلو ما تيسر ...حتى غبتُ في سبات عميق.






سلبتْ عقله "ميرنا" إبنة اليافاوية...كانت تبوح لأم "سعدي" وانا على وشك المغادرة، بلا همة... قلتُ "لحنا" ذات يوم... لن تكف عن زوجها الخواجا حتى تجره معها إلى يافا... وقد فعلتْ.






لم يكن سهلا أن استوعب ما حصل، كيف للخواجا أن يبيع بيته وحصته في معمل النسيج للحاج "المجدلاوي" كي يشتري "سكنة" في حي أبو كبير وحانوت صغير في سوق "بسترس" ...وأن أحتمل بلادة الأيام القادمة وهي تمر ثقيلة بلا طعم أو روح بين المدرسة الاهلية في "بير زيت" وحقول المشمش في "جفنا"، بلا "ميرنا" ... جلبتْ على نفسي برحيلها كآبة سوداء، جعلتني أتخلف عن رفاق القرية في كل يوم لأصعد الطريق المبلطه، مرورا بتجمع "الدكاكين" في السوق، والمصبنة، قاصداً بيت الخواجا عند السفح، لأجلس امامه بانتظار عبثي لوافد لن يأتي ونافذة موصدة لن تفتح...كان "سعدي" ممن يرثون لحالتي ، نال منه التأثر حدا جعله في حالة تأمل دائمة وهو يبحث عن حلول متاحة، أم حنا المكلفة بتزويد بكرات النسيج بخيوط الصوف الحر، تشتريه بزيارة خاطفة من أسواق يافا، مرة كل شهر، تعلقتُ بأذيال ثوبها للمرة الأولى، نهرتني مستهجنة لما أبديته من إصرار، بكيتُ وأخذتُ أستحلفها بروح "راجي"، لكنها أبتْ بحزم وقسوة، جلستُ تحت شجرة الجميز على الطريق وأخذت انتحب، كانت يد "سعدي" هي الاقرب، وهو يقول : إنها تخشى عليك ...لديها كل الحق. حدثني والدي عن تدهور الأوضاع هناك وعن التصعيد المرتقب للثورة بعد قرار التقسيم، الانجليز يا "حنا" يريدون أن يخرجوا من بلادنا بعد أن يمكنوا الصهاينة من السيطرة على البلاد... لم أفهم ما الذي قصده "سعدي" واجبته على الفور: و"ميرنا"...؟ لا عليك ...لدي حل سوف يرضيك مؤقتا...قم معي الآن.






لاحقاً كان يضع بين يديّ حمامة طيارة... هذه سليلة الأبراج الشاهقة، من يافا إلى قفص حقير في "جفنا"، أمر لا يحتمل، اكتبْ ما تريد قوله "لميرنا" على قصاصة ضع عليها اسمك حتى تعرف انها منك...لكن كيف؟ أكتب فقط... حررت لها رسالة على قصاصة ، طواها "سعدي" بعناية، ربطها في عنق الحمامة، واصطحبني معه إلى التلة الغربية من البلدة، هناك اطلقها نحو الغرب...أحيا ذلك الامل لدي من جديد، وانتظرت اياماً ولم يصل رد، كرر "سعدي" المحاولة، مع حمامة اخرى، وأنتظرت ...ولكن بلا طائل، وثالثة اطلقها "سعدي" في فضاء جفنا مؤكدا أن "ميرنا" ستفهم كيف ترد وان عليها أن تصعد لأعلى مكان في يافا كي تطلقها نحو الشرق...خالجني بعض الإرتياح، فيما رحتُ ارقب النوافذ وأتابع أسراب الحمام الطيار في سماء القرية، حتى علا نداء "أم حنا" وهي تهتف منزعجه بإسمي، توجست لذلك النداء، أدركتُ حقيقة الأمر حين وقع بصري على حجرها وقد طرزته تلك القصاصات الثلاث...ماهذا يا حنا...ألم ننتهي من إبنة الخواجا حبيب...حتى تكتب لها رسائل الغرام،... عقدت الدهشة لساني، لأقف امامهاحائراً... كيف عرفتْ وهي لا تتقن القراءة...؟ أسراب الحمام تعود إلى أعشاشها آخر النهار يا فهيم، وام "روبين" لم تتوانى عن إحضار هذه المكاتيب بعد أن عرفت انها منك...في اليوم التالي كان "سعدي" متكدراً يلوم نفسه وهو يردد : كيف فاتني ذلك ...لا بد أنه الزاجل...بل هو الزاجل... وليس حمام "أم روبين"...






بعد الذي حدث اشفقت عليّ "ام حنا" لتهمس لي في إحدى الامسيات: الآن عرفت لم تريد مرافقتي إلى يافا... في المرة القادمة ستذهب معي...لا عليك.






حتى ذلك الحين، كان لابد لرأس السنة واعياد الميلاد أن تهل علينا ككل سنة، في ليلة الميلاد واعياد القيامة يقصد الجميع "جبانة" القرية، ليزوروا قبور موتاهم، وحدنا أنا وامي، تأخذنا الفجيعة ولا نحرك ساكناً، منذ سبع سنوات، و"ام حنا" تحيا فجيعتها بلا شاهد أو قبر تبكي عليه، فقط تلوذ بصمت مطبق، تعمد لصندوق عرسها المركون كقبر، تعانق قلادة الصليب، تشتم رفاة "راجي" من خلالها، ثم تتواري عن ناظري، هذا العام أرخيت سمعي جيداً...كانت تنوح خلف باب حجرتها بحرقة، حين رأتني، مسحت عينيها، بأكمام ثوبها، وهي تقول: لم يبق لي غيرك...وهذه القلادة.






غمرتني عاطفة مشوبة بفرح هستيري، وانا التقيها، نضجت وتبدلت بعض الملامح لديها، غدت يانعة فتاة في ثياب إمراة تجاوزت سن الرابعة عشرة، كل ذلك في شهور، وجنتاها أضحتا بلون المشمش المستكاوي، أينعتا مبكراً، خطفت يدي بفرح مماثل، ثم همست: إلى البحر...سآخذك إليه...ستأنس إلى الرملة البيضاء على شط يافا...


يافا هدير البحر الأزرق وأسراب طيور السمان المهاجرة في أواخر آذار، تكتظ الطرقات بأناس يسيرون في كل إتجاه، دوريات عساكر الإنجليز الراجلة تدب في المكان، ترقب الجميع في حذر، هبطتْ بي ادراجاً حجرية كثيرة، أشارت لمبنى من طابقين توسط سورا حفته اشجارٌ عالية، هذه مدرسة "تراسنطة"... مدرستي، إنعطفتْ مسرعة نحو طريق أخرى قالت هذا المنعطف الاخير لحي "المنشية" ثم نستقبل البحر، بهرني صفاء موجه الازرق في إندفاعاته الرتيبة، وتكسرها في حنو عند اقدامنا على الرملة البيضاء، اندفعت نسائم خريفية استقبلتها "ميرنا" بإغماضة ساحرة في مواجهة الأزرق، حررت ضفيرتها، نثرتها خصالاً ذهبية مموجة ترامت على الصدر و الكتفين، فردت ذراعيها تستقبل الموج وقالت بلا مقدمات: حنا... هل تحبني؟ لجمتني المفاجأة، عقدت لساني، منحتها تلك الإغماضة جرأة الموج في تمرده على صفاء الصفحة الزرقاء، قلدتها بإغماضة مماثلة وذراعين تستقبلان النسيم...:بلى يا ميرنا...احبك.


- وانا احبك ...يا "حنا" ...لكن ماذا فعلتَ حتى لا يفرقنا الإنسان؟


- لم أفهم...


- الا تواظب على حضور الصلاة في الآحاد، والاستماع للعظة...الا تعلم بأن ما يجمعه الرب، لا يفرقه الإنسان... لم يكن بوسعي سوى اختيار سروة معمرة في "دير طامينا" بيت الرب لأنقش عليها اسمك...


طغت رائحة البرتقال على وخم البحر، حين فتحت عينيها، أضحكها البحر وهي تلم خصلاتها من بين امواجه التي تراخت في تراجع النسيم، امسكت بيدي واخذت تجري، إلى أين يا "ميرنا" ؟ هتفت وانا اختنق بشذى البيارات... إلى الدير، إلى السروة ذاتها...عليك ان تقوم بالمثل...عندها يتحقق الجمع.






تخطينا حي المنشية إلى العجمي، تكاثر الناس هناك ...عند ميدان الساعة، كل الشوارع في يافا بدت وكأنها تصب فيه، قبل قليل لفظتنا الحافلة انا وام حنا على حافته، وهناك ايضا كان بانتظارنا ما لم يخطر ببال، كنا على وشك تخطي الميدان باتجاه حي ابو كبير، حتى علا صوت إنفجار ضخم صم آذاننا، أحدث جلبة هائلة بين الناس، رافقه تطاير عشوائي لشظايا من الزجاج والحجارة، تلاه إطلاق كثيف للرصاص، كان مبنى "السراي الحكومي" المحاذي مسرحاً لذلك، تسارعت الاحداث، تفرق الناس في فزع، تسمرنا وحيدين في ذهول وخوف وسط الطريق، التصقت بي "ميرنا" وهي تصرخ قبل أن تمتد نحونا قبضة ثقيلة قوية، حملتنا إلى مكان مجاور في لمح البصر، تبيناه على الفور، كان مقهى يكتظ بالمرتادين، دون أن نلمح أو نتبين صاحب تلك القبضة.






غروب اليوم الثاني في دير التجلي، التراتيل الليلية تنساب هادئة نحو الباحة الخلفية لتضفي خشوعاً محبباً على الأشياء، الشماس المكلف بمراقبتي، صار مرافقاً ودوداً، بدأ يصغي باهتمام لما اقول، استعين بصبر مضاعف في التغلب على حرمان يعمقه اشتياق عارم راح يجلدني بسياط من نار، تبعد بضع خطوات عن هذا الدير في قلب رام الله بينما اقبع معاقبا هنا ولا اقوى على رؤيتها، مضى شهرين ونصف على تلك الحادثة في ميدان الساعة، إتخذت منها "أم حنا" ذريعة للذهاب إلى يافا من دوني، كلما توسلتُ لها عصفت بوجهي: ألا ترى...ألا تسمع، الدنيا على كف عفريت وانت لا تفكر إلا بست الحسن...لألوذ بشجرة "الجميز" كاسفاً وحيداً، كنتُ أستعيد ساعاتنا القليلة في يافا بشيء من الفرح، كانت ذكرى صغيرة لكنها كافية لتؤنس وحدتي، كنتُ أبغي الذهاب رغبة مني باتمام النقش لتضم إسمينا شجرة واحدة في دير "طامينا" ...لكن هيهات.






لم يكن بوسعي سوى ألإمتثال لرغبة "ميرنا" بالمواظبة على صلاة القداس في الآحاد، والإنصات للعظة، أمضي طائعاً برفقة "أم حنا" إلى "مار قديس" في بيرزيت مع صباحات الآحاد، أخرجتْ قلادة الصليب من صندوقها الخشبي، وللمرة الاولى طوقت بها عنقي وهي تقول: الآن كبرتْ يا حنا ويليق بك أن تزهو بها في الصلوات...كي يزهو بها أبوك بدوره، ثم تشملها الحسرة، فنمضي بصمت مشابه لسكون الصباحات الندية في "جفنا"... لتنتزعها مني فور مغادرتنا للدير، وهكذا حتى جاء يوم أعدتْ فيه ثلاثة سلال من القش ملأتها بخيرات الحقول، وهي تقول: سأستعين بك هذا الاحد في حملها إلى رام الله...كان أمراً مفاجئاً، ولم رام الله؟ سألتها ببراءة، ...سوف نقصد "دير تجلي الرب" للصلاة هناك...، لكن لم رام الله؟ رمقتني بنظرة ماكرة: حقاً لا تدري؟... أبدا يا امي... الخواجا "حبيب " برفقة العائلة في رام الله...نزلوا بالامس في فندق "عودة"...وقد أتى لأمر لا نعرفه... لكن علينا أن نرحب به كما يجب.


كنتُ أفرُّ من العظة بقلب يتراقص شوقاً للقاء "ميرنا" بحثتُ في باحة الدير عن سروة معمرة لأعيد ترتيب الطقوس الجمعية والتي لم تكتمل في "طامينا" نقشتُ اسمها على هذه الشجرة في غفلة من المصلين، وأنا ازهو بقلادة الصليب، وفي الطريق لفندق "عودة" رجوت امي ان تبقيها بحوزتي حتى المساء، فأذعنت على مضض، كان لقاء لا يوصف بميرنا واهلها في ذلك الصباح الربيعي، فقط حذرنا الخواجا "حبيب" أنا وميرنا من الإبتعاد عن ذلك الفندق، وهو يؤكد بأن البلد تغلي في كل المناطق بعد شروع الإنجليز بالرحيل الفعلي والمنظم عن فلسطين في تواطؤ علني بتسليم مواقعهم للعصابات الصهيونية...ثم كان ما كان في باحة الدير، حين فرت هي بالقلادة... وبقلبي...


ربت الشماس على كتفي في تأثر، غدا صباحا تغادر الدير بمشيئة الرب... لا عليك... قالها في ثقة، ثم غادر، لم انم تلك الليلة حتى طلع الصباح، تحاشيت رؤية "الأرشمندريت" صافحت الشماس بحرارة، وغادرت أسابق الأزقة والطرقات الخالية في رام الله... طالعني الفندق القديم، ببوابته الكبيرة واشجاره العالية، دلفت مسرعاً لأجد بانتظاري أرضاً رخوة تتحفز لإبتلاعي وهو ما لم يخطر لي ببال، نعم ايها الفتى لقد غادروا مساء الأمس... إلى جهة غير معلومة... كانت تلك السيدة تكرر مؤكدة وهي تقبع خلف طاولة الإستقبال في البهو الرحب للفندق، وانا اكرر عدم تصديقي حتى غامت الدنيا في وجهي واخذت أهيم في شوارع المدينة غير مصدق لما سمعتْ، كيف أبرر لأمي ضياع القلادة؟ وميرنا... اين هي الآن يا ترى، ولم عادوا إلى يافا بهذه السرعة؟


بعد مساء مثقل بالتردد بين البساتين في "جفنا" كنتُ أواجه أم حنا بكل شيء، هيأتُ نفسي لأقصى عقوبة، لكن الذي حدث كان أقسى بكثير، لم تصرخ في وجهي أو توبخني، فقط غشيها صمت غريب ومسحة عميقة من تراكم أحزان قديمة مزمنة وهي تلقي بجسدها المسربل بالسواد أمام عتبة البيت قبل أن تدخل وتغلق على نفسها باب غرفتها بعد منتصف الليل، وهو ما لم يحدث من قبل... لم تغادر حتى ظهيرة اليوم التالي، سمعتُ صرير الباب ركضتُ في قلق نحوها، كانت تقف على مدخل الباب شاحبة خائرة، ملامحها تستعصي على الفهم، ساهمة وكأنها تنظر إلى شيء بعيد...وغير موجود...نطقتْ بصوت متعب، أدعو لي "ام سعدي"...فورا.


توالت الأيام القليلة وهي على تلك الحال، لم تعد تذهب إلى معمل "المجدلاوي للنسيج" في بيرزيت، ولم تكن لتبرح غرفتها، إلاّ لحاجة شديدة، غدت طريحة الفراش، من دون علة واضحة، كنتُ أدرك في قرارة نفسي بأنني السبب، وبانني سأفقدها إن لم أستعيد القلادة، تذكرتُ ما قاله لي الشماس في الدير، فعزمت على تنفيذ أمر لابد منه، في فجر ذلك اليوم، كنتُُ أختلس نظرات مطولة إلى جسد "ام حنا" المكوم على الفراش، أقصى الزاوية، تبينت بعضاً من وجهها المستكين، ثم غادرت مسرعاً قبل أن يدهمني الفتور.






مع بزوغ أولى خيوط الشمس كنتُ إلى جانب الشماس في سيارة الدير وهي تطوي بنا المسافة بين القدس وبيارات يافا بسرعة معتدلة، هل انت واثق من معرفة مكان "أم حنا" في يافا؟ نعم يا سيدي...بهذا كنتُ أجيبه طوال الوقت...منحتُ نفسي مبرراً لكذبة جديدة أضفتها لخطيئة الدير في سبيل الوصول "لميرنا" واستعادة القلادة...على مشارف المدينة طالعنا برج مرتفع مسيج بأسلاك شائكة لم يلبث أن تحول إلى مصدر هائل لإطلاق الرصاص صب نيرانه نحونا بشكل جنوني، الشروع برسم إشارة الصليب هو آخر ما فعله الشماس وما علق في ذاكرتي قبل أن تدور بنا الأرض دورتها الأبدية نحو ليل ملتبسْ لم تطلع له شمس إلا بعد شهور على الأغلب من تلك الحادثة.






في تواصل الليل، تكمن المشكلة، وتلك الوجوه اللاتي تحيط بي، وهذا الألم المتصاعد من ساقي لا يفارقني، قبل أن ينقشع الغباش وتصفو صورة المكان أردد: لا تأخذوني إلى "ام حنا" بدون القلادة...يجب أن أستعيدها اولاَ...، تتفرق الوجوه في رثاء وريبة، "لهف قلب امك...كيف طاوعها أن تفر من يافا بدونك؟ صوت المرأة الطيبة يأتيني قبل أن تنجلي الصورة تماما في تدفق مفاجيء لشريان الذاكرة، فأعتذر مؤكداً بأنها لم تفر...هي في "جفنا" وانا من أتى ليافا بحثاً عن "ميرنا" إبنة الخواجا...وعن القلادة، لا أحد يصدقني...متى ينجلي الليل؟ ألن يطلع الصباح؟ زوج المرأة الطيبة... "أنطون الحن" يربت على كتفي بيد حنونة، يا بني منذ شهر تقريباً وانت على هذا النحو، منذ عثرت عليك حامية الثوار...أنتَ والشماس...، أنتفض حين أتذكر "الشماس"... وأين هو الآن؟


- كم مرة سنقول لك..لقد قضى شهيدا إلى جوار الرب، تلقى الرصاص نيابة عنك، لقد كان يحتضن جسدك النحيل ... افتداك بنفسه.


لقد مرشهر، مالذي حل بأم حنا يا ترى؟ وجهها الشاحب، لا يفارقني كلما صحوت، يثير لدي المخاوف والقلق.


كان يصل لسمعي في ساعات اليقظة حوارات البعض ممن ضمهم بيت "انطون الحن"، كان جلها يحكي عن وصول الجيوش العربية وأن التخلص من عصابات الصهاينة وتحرير يافا بات وشيكاً، وحتى ذلك الحين يسعى السيد "انطون" لإصدار تصريح لي من تلك العصابات، يخولني بمغادرة حي " العجمي" ذلك الحي الذي تحول إلى معتقل كبير، جمعت فيه تلك العصابات من تبقى من أهل يافا، واحاطته باسلاك شائكة، كان السيد "انطون" في ساعات اليقظة يقترب من فراشي مؤكداً: يا ولدي لم نعثر على الخواجا حبيب أو عائلته بين من بقوا في يافا...أحاول أن اتذكر متى أوصيته بالبحث...فتشملني العتمة بذلك الليل الموصول لأمضي بلا وعي من جديد.






يافا تبدلت، وخشيتي تتفاقم ماذا لو حررت تلك الجيوش العربية يافا قبل عثوري على ميرنا والقلادة، كنتُ في سباق مع الوقت... ومع عتمة الليل، عند ظلمة الحاجز الشائك أوصاني الرجل الطيب بضرورة الحذر وهو يسلمني تصريح المغادرة، للمرة الاولى أشهد الفجر وأولى خيوط الشمس وهي تنير مدينة غريبة، لم أعرفها، لافتات بأحرف غريبة لشوارع خالية، قلنسوات وقبعات غريبة تظلل وجوهاً بملامح حاقدة تخفي تحتها رؤوساً تشبه الافاعي المجلجلة في أدغال قريتي، سوالف تتدلى حتى الكتفين، هل يعقل بانهم اولائك الصهاينة، قبل أن اعبر الحاجز سألت السيد "أنطون" لم كل ذلك الليل؟ تبسم في وجهي وهو يقول: كنتَ تذهب في غيبوبة اثناء النهار وتصحو مع الليل ...هذا كل شيء يا فتى، ساقك الآن بخير، فالرصاصات لم تصبها إصابة مباشرة...حفظك الرب.


ن البحث عن "حي أبو كبير" ضرورة للوصول لبيت الخواجا حبيب، لكن المحاولات العديدة لم تفلح، لم يكن هناك ما يشير إلى ذلك الحي، او غيره، حاولت إعتصار الذاكرة لكني فشلت، مع تهيؤ الشمس للمغيب تسرب اليأس إليّ، ولم أفق إلا وانا أقف أمام دير ضخم... "طامينا" ، لمعت ذكرى غالية على قلبي وانا اتذكر "ميرنا" احسست بأمل يتجدد وانتعاش مفاجيء شمل اطرافي، وقفت على بوابته المشرعة، ترددت للحظات بالدخول، لم يخطر ببالي مطلقاً بان اللحظة التي سألج فيها ذلك الدير، ستكون الاخيرة، وبأنني لن أغادره إلا بعد زمن طويل...






عند بوابة الدير ذاتها وللمرة الاولى منذ تسعة عشرة عاماً، كان الفتى يرتدي ثوب ذكرياته القديم، خلعه هناك ليبقى معلقاً بانتظار خروجه طوال تلك السنين، غادر الفتى دير "طامينا" شاباً يافعاً في مقتبل العمر محتفظاً بصورة باهتة لأم حنا حفظتها ذاكرة سقيمة ضاقت عليه الآن، طوتها سنين الانتظار وصلوات المغفرة، بعد هزيمة الجيوش العربية في حزيران، أقرّ الأب "مارون" راعي الدير بسقوط يافا وهو الذي حرم الخروج على نفسه طوال أعوام النكبة وما تلاها من وقائع، هل كان يحتاج إلى كل تلك السنين ليقر بذلك؟ رحمه الرب... لم يحتمل، فقضى بعد خروج أول زائر ليافا جاء به شغف الأشتياق من مخيمات النزوح ليرى مدينته يافا وديره القديم...لم يكن يقلقني ما حل بأم حنا فلا بد أنها قد قضت هي الاخرى، أدركتُ ذلك بحدس الإبن، فقط مدى معاناتها وعودتي إلى "جفنا" من دون القلادة كانا أمران ينفطر لهما قلبي، حين جلست للأب "مارون" راعي الدير، غمرني بعطف لا يوصف على الرغم من عدم تصديقه لقصتي، وأنتظرت في قلق أن نعثر على النقش الذي حمل اسمي في حديقة الدير، رافقني في البحث بين جذوع اشجاره الوارفه والعديدة بتمهل كبير، حتى عثرنا عليه نهاية المطاف في ذلك المساء البعيد، كان النقش جرحاً نقياً على جذع سروة قصية، بقي النقش وذهبت صاحبته إلى غير رجعة، أحتسبه الأب "مارون" بمثابة الدليل القاطع على صدق حكايتي أمامه، فاوصى ببقائي في الدير، حتى تنجلي غمة المدينة ويرحل الصهاينة، أكد لي يومها: هذه العصابات لن تصمد امام جيوش جرارة...صدقني يا بني، نزلتُ عند طلبه ورضيت بالبقاء تكفيرا لنفسي عن خطيئتها، بدأتُ أعتاد الكنيسة أواظب على صلواتها طلباً للمغفرة، حتى أحتسبتُ نفسي خادما مطيعاً لبيت الرب مخلصاً له ما حييت...،


لم تفلح وساطة الأب مارون في ترحيلي عن طريق منظمة الصليب الأحمر أو ممثلي هيئة الأمم، ولم يعترف بالخطوط الجديدة، خط الهدنة، أو خط التماس الأخضر، وكان يؤكد بأن هذا الوصف مستفز... كيف له أن يكون أخضراً؟ فالجيوش هناك لم تزل تنتظر...هذا غير واقعي يا "حنا"...، ولكنني سلمت بقضاء الرب وواصلت خدمتي لبيته وواظبت على الصلوات طلبا لهدأة الروح والمغفرة، ولم اعد أفكر بميرنا او بأمي، وكنتُ أرى في المنام، ما يقربني من نفسي، فتهدأ روحي وتستكن، حتى كان ذلك المساء، حين غفوت متعباً عند مذبح الدير، فرأيتُ أمي وهي تعجن للفقراء تحت السروة العتيقة في دير التجلي برام الله، فافزعني المنام... وأثار حنيني، فخرجت أجري إلى حديقة الدير في "طامينا" تعثرت بالأب "مارون" ولما سردتٌ عليه المنام، بشرني بالمغفرة وبالعمر المديد، وبأن الرضى يسكن قلب امي أيضاً... وبأن اللقاء بات وشيكاً بيني وبينها، كنتُ أضيء شموع المذبح وقت الصلوات، قلةُ ممن طواهم الزمان في حي العجمي، كانوا يحضرون للمشاركة في تلك الصلوات، كنتُ أفرح عندما ألمحُ الرجل الطيب "انطون الحن" برفقة زوجته العجوز بين الحاضرين، كانا يباركان وجودي في الدير بلمسات حنونة، فيخففان عني الكثير، اعتدتُ على حضورهما بانتظام، وكلما هاجني الحنين لأمي تسللتُ إلى المذبح لأغفو هناك لتهب على الفور رياحٌ غامضة تحمل نحوي رائحة الطابون وانفاس دافئة معطرة لأم حنا، فأصحو منتشياً، وكلما قادني الحنين لأيامي البعيدة برفقة "ميرنا" خرجت لساحة الدير نحو جذع السروة العجوز، لأشتم عبق النقش، فأستعيد بذاكرة حية وجنتي ميرنا ونظرتها الصافية، مضت سنواتي في الدير على ذلك النحو، حتى بدأتُ أفتقد لأمر كنتُ بدأتُ الاعتياد عليه وهو حضور الرجل الطيب وزوجته إلى صلوات الآحاد، فأخذتُ أصلي لأجل غيابهما المفاجيء ضارعا إلى الرب أن يشملهما بعطفه، في الأعوام القليلة التي سبقت هزيمة حزيران، افتقدت لرؤيا "ام حنا" في منامي، لم أعرف على وجه التحديد متى كان ذلك...لكني أيقنتُ بحدس الإبن بأنها قد فارقت هذه الدنيا، عشتٌ أيامي بعدها مؤمناً بفاجعة ذلك اليتم المفاجيء مسلما أمري بعدها للرب، حتى النقش الذي صنعته يد "ميرنا" على جذع تلك الشجرة في ساحة الدير، كان لحاء السروة العجوز قد نما والتأم ولم يعد هناك ما يدل على وجوده، لكني لم أعرف بم افسر ذلك، فأضحت أيامي مليئة بالواجبات الدينية وخالية تماماً من أي أمل قد يربطني بنبض الحياة الموصول خارج الدير، حتى كانت النكسة وصداها المفزع، فلم أعد أرى الأب "مارون" إلا صامتاً متأملا فارقته الأبتسامة الهادئة لتحل مكانها صفرة غريبة غشيت ملامح وجهه الوضاء، أضحى بلا سبب واضح طريح الفراش أيضاً، لكنه لم يكن ليتخلف عن الصلوات، حتى كان ذلك اليوم، حين زارنا في الدير رجل في الخمسين من عمره، وطأ ارض الدير وراح يقبلها وهو يتساءل بلهفة عن الأب "مارون" فقدناه إلى حجرته، جثى امام سريره وراح يقبل يديه وهو يبكي، ويقول: يا أبتي لم تفارق خيالي طوال فترة نزوحي عن يافا...كما أن هذه المدينة لم تفارقني أيضاً، يا ابتي...يمكنك اليوم أن تزور مهد المسيح في بيت لحم... لكن الأب "مارون" كان جسداً خائراً لم أميز سوى بعض الدموع كان يذرفها بصمت... سألتُ الرجل عن أسمه، فأجاب: "جورج الحن" ... أعاد لذهني ذكرى ذلك الرجل الطيب وزوجته في حي العجمي، ولما حدثته عنهما...هز رأسه في أسى وقال: هما والداي... لم يشأ الرب أن أراهما مرة أخرى، لقد ماتا منذ سنوات.


في اليوم التالي كان علي ان أجمع أشيائي القليلة وأن أغادر الدير، ان أعود إلى "جفنا"، كنتُ كمن يداوي الجرح بالملح... موت المبجل، الأب "مارون" أخرني لما بعد مراسم الدفن...ثم غادرتُ دير طامينا بعد تسعة عشر عاماً لم أشك خلالها ولا للحظة بأن الرب قد عفا عني، وبأني اخرج الآن نقيا بلا خطايا كما ولدتني ذات يوم أمي..."ام حنا".


خارج الدير، تبدلت يافا بما يكفي كي تدير لك ظهرها...تحس بها كوجه قديم...تعرفه، ولكنه لا يعرفك. "جفنا" هي الأخرى تبدلت، لكنها فتية، تلاقيك بذراعين مفتوحين من دون اعتبارات مسبقة، وجدتُ طريقي لذلك البيت، بيت العقد القديم، كانت حشائش الحاكورة الخلفية، المهملة، قد حجبته عني، لكن شجرة "الجميز" المزروعة كوتد ...عرفتني ظلت تنتظر لم تبرح مكانها، ووجه آخر كان آخر شيء توقعتُ رؤيته بعد هذه السنين، أطل من خلف سور بيت مجاور لأرضنا، كان وجه "سعدي" عرفته على الرغم من لحيته المرسلة، حملق في عينيّ قليلا ثم صاح : حنا...غير معقول،حنا...،ثم غبنا في عناق طويل، ذكرته بحمام "أم روبين" وبأفكاره التي كثيرا ما جلبت علينا المصائب ونحن صغاراً ...فضحك في حسرة، ثم اكتست ملامحه مسحة من الحزن والخشوع وهو يردد: أين كنت طوال تلك السنين...أمك يا حنا...كانت...قاطعته وانا أؤكد له بأني فقط جئتُ لأعثر على قبرها... لأزوره في اعياد الميلاد والقيامة، ككل البشر، لأصلي لها...لكنه قاطعني ليقول: عليك أن تعلم بانها لم تمت هنا...بل هناك، في دير التجلي، عثروا عليها وقد فارقت الحياة تحت تلك السروة العتيقة، تحديدا تحت نقش اسميكما انت وميرنا حيث اعتادت ان تجلس وان تعجن للفقراء في الآحاد والأعياد،


صمت سعدي فانتهزت تنهيدة عابرة لأسأل: متى كان ذلك على وجه التحديد؟


- كان ذلك منذ خمس سنوات...


- وأين قبرها الآن ؟


- أتصدق يا حنا...؟ أن احدا من قريتنا لا يعرف!!


- كيف ذلك...وهل يعقل؟ له المجد في الاعالي ... فهل يعقل يا سعدي أن لا نعرف؟


- هذا مع حدث، فقد تطوع الأرشمندريت خليل بفسه لدفنها إكراماً لها، رافقه شماس واحد واثنين من خدم الدير...حاولت أنا ووالدي، ان نعثر على قبرها بعد وقت من دفنها، لكن الأرشمندريت كان قد مات، وأما مرافقوه، فكان منهم من رحل ومنهم من قضى، ولم يعرف احد من قريتنا على وجه التحديد أين قبرها حتى الآن...ثم سكت "سعدي" في تأثر مثلما بدأ، اما أنا فغمرتني دوامة الماضي، ولم افق على الحاضر، حتى كانت تلك الدعوة لأبناء الدير في المهجر، في قاعة دير التجلي... "غداء التقشف" وتلك الصبية المغتربة وهي تزهو بتلك القلادة، ليس من حكمة الكبار وقد تجاوزت السبعين من عمري، أن انكأ جرحاً قديماً عفت عنه السنين، فغادرت الدير على الفور بلا استئذان، ودون ان اتحرى عن تلك الصبية، والتي كان من الممكن أن تقودني إلى "ميرنا" ...أو إلى ما تبق من "ميرنا" ...إلى الأرض وربما إلى ما تبق من حلم طفولي سلبته مني تلك العصابات الصهيونية، حلم طفولي صغير منهوب رجمت به عرض الحائط والأرض في غفلة منّا جميعاً ولم تترك لي عليها قبراً واحداً، ولا حتى شاهدا على قبر... .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الدمام 5-9-2010