14‏/09‏/2010

دير طامينا - قصة قصيرة



قصة – دير طامينا


في القاعة الرحبة، وتحت قبة الدير المعلقة في الذهن كأيقونة، كنتُ استأثر بولع المشاركة، في رحاب الجمعة العظيمة، والتلبية بحضور طوعي إلى "غداء التقشف"، وفيما تركض الريح المقدسة كمهر خارج السور، لمحتُ التلال وهي تنحدر عن خصر "رام الله" لتهرع نحونا، رأيتها تخلع عنها زيتونها القديم، ومشمش قريتي "جفنا" لتطفر من عينيّ أمام الحضور كدمع اللهفة، أبصرتُ ما هو أغرب في لمعة القلادة ذاتها والتي اضعتها ذات يوم في باحة الدير، قلادة الصليب المقدس حول عنق الفتاة العشرينية شبه معجزة، بماذا أبرر لخمسة عقود ونيف أهرقتها في البحث عنها، ترى هل اصدق ما أراه، أم أن عيناي قد خانتاني مجدداً؟ وإن يكن ما أراه حقيقياً، وانها ذات القلادة المفقودة، فهل بوسعي أن أكترث، بعد هذا العمر؟ فأخرق هدنة أبرمتها سنواتي الاخيرة مع الماضي، بعد أن أمسك عن ذكرها كل شيء ومنذ زمن بعيد، ولم يبق أحد ممن يذكرني "بميرنا"،...لهذا فقد أذعنتُ، رفعت يدي وكففت سمعي، ولم أعد أبحث إلا عن هدوء الخاتمة...


لم أدرك بأن المسافة الفاصلة كانت قصيرة إلى ذلك الحد ، وانها بمقدار عرض المائدة والأطباق فحسب، حتى تسلل إلى سمعي الواهن صوت تلك الفتاة في نزق: هل هناك خطب ما، هل تعرفني يا عم؟! نزق رصين، وطبع ألفناه عن ابناء الجالية في المهجر... لم اصدق هل كنت أحدق طوال الوقت بمقدار تلك المسافة إلى صدر تلك الصبية،... المعذرة يا أبنتي... رددت وانا أرمق وجهها وعينيها بتمعن وارتباك، أشاحت، بامتعاض، وراحت تعبث بحبة زيتون في صحنها على المائدة... لن أبادر بالسؤال، لن أنكأ جرحاً قديما تكفلت بدمله السنين، لكن القلادة تخص غيري، وليس اقل من هدأة الروح لتلك المراة الصالحة " أم حنا"، كتكفير أخير عن أول ذنب اقترفته... فماذا بوسعي أن أفعل لها، هل أستعيد القلادة؟ أم أنسحب؟ استعنت بعكازي في النهوض عن كرسي المائدة، شملتُ المكان بلمحة خاطفة، فلم تفضي الإحاطة إلى كرسي شاغر، كل الموائد مشغولة تضج بهمس الحضور، تخذلني ساقاي من جديد، فأتعثر واوشك أن أسقط، يهرع البعض نحوي، تسبقهم إليّ تلك الفتاة العشرينية كونها الاقرب، تعدل عن صيحة مفاجئة، إلى بضع كلمات غريبة تنطقها بلغة المهجر، وهي تتلقف قامتي بين ذراعيها، توخى الحذر يا عم...همست في أذني فأشعلت حنيني، لذراعيها دفء المسرات وعبق الماضي الذي تحول، لم أرغب في فراقها، ولم ارغب في البقاء، تملكتني حسرة قديمة ودموع مفاجئة أخذت تحتشد على إثر ذراعيها لم أرغب أن تراها... حسمتُ نيتي، فغادرتْ.
خمسة عقود وانا ارفل بالخطيئة، وجدار الدير القديم يتململ في الغياب، يحرك ظلاله الراكدة في شراييني بقسوة... كي لا انسى، ورائحة الخبز الطازجة، الممزوجة برماد " الجفت" والحصى، في فناء ذلك الدير... تفور مع انقضاض الصباحات الكئيبة على بقية الوقت، أمي كانت هناك تعجن للفقراء، تفترش الرمل وحشائش الباحة، وهي تقلب لهم خبزهم، كفاف يومهم، فوق حديد الصاج أو على حجارة الطابون، وحين يلفح وجهها لظاه يتورد كبرتقاله... على صدى جوقة التراتيل أراها تغمض عينيها تستحضر وجهي ثم تشرع بالصلاة، والدعاء.
خلف ذلك الجدار القديم للدير، وتحت شجرة سرو معمرة، ارتكبت خطيئتي الاولى، كنتُ يافعاً، لكنني لم أسلم من التقريظ، اعترفت "للأرشمندريت" بعد أن ضبطني متلبساً في حينها، كان برفقة بعض الشمامسة يجوب الباحة الخلفية، فطهرني بالعقاب...وأمدني بالنصيحة " عليك أن لا تسطو على تفاح غيرك"... هل تفهم يا بني؟... نعم يا أبتي، وأقسم بأنني لن أعود لهذا مرة أخرى...، لكنني تماديت في تبريري ، فأضفت: بأن وجنتيها كانتا هما السبب، وكيف أنهما أتقنتا فن الغواية...فأوقعتا بي، لهذا قبلتهما بذلك الشغف.... تأملني "الأرشمندريت" وهو يهش عن وجهه شبح ابتسامة عابرة، ثم قال في هدوء: ألم تكن بصحبة المرأة الصالحة في عظة اليوم... بلى ...رددت في وجل...حنى قامته حتى صار في مواجهتي : إنها تحيك الصوف لفقراء الدير بلا مقابل، إنها صالحة بحق، هل أنت ولدها؟ بلى يا "أبتي" ...ما اسمك؟ ..."اسمي حنا..." "يلزمك بعض التهذيب يا حنا..." قالها وهو ينسحب في مهابة وأنا أرمق صورتي في ردائه الأسود الفضفاض، أشار لأحد "الشمامسة" فاندفع الآخر نحوي، امسكني من يدي، امتثلت له بلا تردد، باشر في تنفيذ العقوبة على الفور معقباً بأنها ستدفع عني مغبة الخطيئة...وسوف تقودني إلى الخلاص. كنستُ القمامة في الباحة الخلفية للدير حتى أقبل الغروب، ثم عمدتُ إلى جمع أوراق الأشجار اليابسة المتناثرة وتكديسها في اكوام،... كل ذلك وانا مشوش الذهن، يجتاحني قلق خفي على "ميرنا"... وجهها المتفتح كنوار الحقول في "جفنا" والضفيرة المجدولة لم يفارقاني، وشهد خديها الذي بلل شفتاي منذ ساعات قليلة ظل عالقا، أتذوقه طوال الوقت، استعيد التفاتتها نحونا وهي ترشح خجلاً، وخطاها العاثرة وهي تفر من أمامنا نحو باب الدير، ثم وهي تسابق الأزقة في أحياء "رام الله" نحو فندقها الكبير "فندق عودة" بلا دليل، ترى هل وصلت إلى هناك، أم انها أضاعت الطريق إليه؟
"الشماس" المكلف بمراقبتي، يرمقني بعطف، لكنه يحثني على المواصلة، اجلس تحت نفس "السروة" لبضع دقائق، فيستلني الوقت من تحتها كفراشة.
حقا لقد كنا نطارد الفراش منذ قليل، نسابق الأزقة في توسل صاخب كي لا يحلق مبتعدا فوق أشجارها الوارفة، نستل أعواد الرياحين الناتئة عن حواف أسوارها الحجرية، ، نلوح بها في الفراغ قبل ان نتبادل فرك اطرافها الطرية العابقة بانوفنا الصغيرة، لأحياء رام الله الوادعة في قيلولة الظهيرة مذاق الحكايات القديمة، طفنا مع سحرها المذاب في صدور الامهات حتى بدى لنا الدير غير بعيد ، لم يلبث أن طالعنا ببوابته الحديدية وأغصان أشجاره المترهلة كخميلة وهي تستريح على سوره الحجري القديم، عبرنا خلسة، أمام جذع السروة الضخمة، كنتُ أشير إلى حيث يجب عليها أن تحفر إسمي بدورها، اغمدت طرف السكين الصغيرة في صمغ اللحاء إلى جانب اسمها، ثم شرعت بترديد الحروف إلى جانب النقش، حتى اتمته،... الآن... ما يجمعه الرب لا يفرقه الإنسان يا "ميرنا"... همستُ لها، صدتني بيدها في دلال وهي تقول: ليس بعد، ينبغي عليك أن تقوم بالمثل... هناك على جذع السروة التي تنتظر في دير "طامينا" بيافا، أعرف ولكن ... كل الحق على "ام حنّا" فهي تأبى اصطحابي إلى هناك... قلتها في ضيق، غمرنتي بعينيها، فاذعنتْ وانا اواصل: تتذرع بخشيتها من تدهورالاوضاع بين العرب والإنجليز خصوصاً بعد قرار التقسيم من جهة، ومن عصابات الصهاينة االمسلحة...من جهة أخرى... يا "ميرنا"... لم تعلق، ظلت عيناها تفيضان حنيناً كأيامنا الخوالي، وجنتاها اللتان تغذتا على "مشمش" قريتي... "جفنا"، تنضحان الآن امامي بخلاصة الندى ولون الزهر في نيسان، نزعتُ عن عنقي قلادة الصليب طوقتها بها، بدت اكثر القاً وهي تراوح بين يديّ، فقبلتُ الزهر في وله وانا اهفو لمشمش الخدين، حين لاح قدس "الارشمندريت" برفقة الشمامسة، لتفر من بيننا، مبتعدة، بقلبي وبالقلادة...
لم يكن لتلك القلادة وجود، قبل ظهور ذلك الرجل الغامض بقبعته الغريبة السوداء والتي تشبه إلى حد ما ذيل غراب القاق، عندما حط بأسماله الرثة على ارضنا أمام غرف العقد المتلاصقة وسط الفناء، وما رافق وصوله من ظواهر ملتبسة، شمس الظهيرة من شهر أيلول ككل يوم في قريتي "جفنا"، لكن أفراخ الدجاج تراكضت فزعة في كل الإتجهات فرت من امامه إلى خارج الفناء، حين جثا على ركبتيه خالعاً قبعته امام والدتي في خشوع مهيب، لتخمد أصوات صغارها خلف السلسلة الحجرية مرة واحدة، ليومين لم نفق إلا بعد أن إلتهمتها جذوع شجيرات الصبار والعوسج الشوكي، ريشها العالق كان الدلالة الأكيدة على ذلك، لم أفهم كيف تحولت امي أيضاً إلى إمرأة باكية في لحظات، وكيف قصف الرعد سويقات ثمار المشمش المستكاوي على امهاتها المحيطة ببيت العقد في تلك الظهيرة فلم تثمر بعدها لعام كامل، جذبتني يد قوية من أمام جذوع الصبار،ثم تناقلتي الأيدي في عطف، كنتُ في السابعة من عمري، لكنني لم افهم... رحل الغريب بقبعة الذيل، واكتظت غرفنا بنساء القرية اللواتي شرعن بتبادل الإلتفاف حول امي الباكية يربتن على كتفيها بعيون دامعة، ثم تمضي السنين ثقيلة لتجلب بمقدار ضئيل ما يكفي لفهم طفل، اعدت الحكاية على اسماع "أم حنا" وهي تخلط الجفت بالقصل لتهيئة التنور في الركن القصي للفناء ...نصبتْ قامتها ثم شردتْ لبرهة، في استعادة خاطفة لذلك الماضي القريب، قبل أن تصحح بتلويحة غاضبة فيها من اللوم الشيء الكثير : الرجل كان يرتدي قبعة خواجات...اهل البحر، ويومها لم ترعد ولم تبرق...كنا في الصيف يا ولد، لكن الرعونة التي جمعت بينك وبين رفيقك إبن الشيخ محمود هي التي قصفت أمهات الثمر على شجر المشمش حين رششتموها بجفت الزيتون الحار، أما أفراخ الدجاج فأنتما أيضاً من دفع بها إلى متاهات الشوك حتى نفقت...جذوع الصبار لا تأكل ولا تشرب...يا فهيم... حنت قامتها نحو التنور، ولم تعد للتهيئة فقط جلست هناك بسيماء حزينة،احتوتني في حجرها لتهمس لي: ذلك الرجل جاء ليعطيني قلادة الصليب...او ما تبق من والدك، بعد أن إبتلعه البحر في بور سعيد ....
تلوح قامته الفارهة في فضاء الغرفة وهو يزهو ببنيته القوية، رغم أنها تتوارى خلف ضباب كثيف في ذاكرتي كصبي، يتردد صوته في حديثه الصاخب إلى امي: ليس لنا أرض كالبقية في "جفنا" حتى نعتاش من فلحها...بيت العقد هذا والحقل المجاور كل ما املك...،كيف يطاوعك قلبك أن تتركنا وحدنا أنا وهذا الطفل يا "راجي"، ترد أمي في توسل، وحين تفقد الأمل، تلجأ لأقرب الجيران لتستعين به في إقناع والدي، ما زلت أذكر سبحة الشيخ محمود، وهو يسدُ المنافذ في وجه والدي، ليثنيه عن السفر: يا راجي "في السماء رزقكم وما توعدون"...، بلى يا شيخنا هذا صحيح... لكنه السعي، فقط أنا اسعى لذلك الرزق...ألا يقال أيضاً " وقل إعملوا..." يزهو بحجته من جديد أمام صمت الشيخ، ثم يضيف إلى مبرراته: الإضراب الكبير الذي عم فلسطين كلها، إنتهى منذ خمس سنوات، ولم يرحل جندي إنجليزي واحد، لكنه أعيانا نحن يا شيخي، تراجع العمل في ميناء يافا ولم يعد كالسابق...وانا لا اتقن غير مهنتي في عتل البضائع...
مع أولى خيوط االشمس المبللة بندى الحقول، من شهر حزيران، ايقظتني "ام حنا" لامضي برفقتها، سلكت بي درباً وعرة أفضت لتلة تطل على بلدة "بير زيت" تسلقتها "أم حنا" بهمة عالية، كانت يدي في قبضتها بينما تأرجحت سلة مملوؤة بالمشمش المستكاوي بلونيه الاصفر والاحمر في يدها الأخرى، أوحت قسماتها العابسة بجدية الامر، في "بير زيت" وفي بيت مكون من طابق واحد كنا امام رجل نفض عن وجهه غبش الصباح للتو، دعانا لصالة رحبة حفتها ارائك بألوان زاهية كتلك التي يتميز بها أهل المدن، لتشرع "أم حنا" بموجة جديدة من توسلاتها: وحدك من يقدر على إقناع "راجي" بالعدول عن السفر، كما تعلم ليس لنا غيره انا وهذا الطفل...أرجوك خواجا "حبيب"...،اشفقتُ عليها اكثر من أي وقت مضى، وهي تتجرع رداً لم يكن في حسبانها، كان بمثابة الصعقة، وهو يؤكد في برود: كيف يمكنني ذلك؟ وانا من اقنعه بالسفر...وسعى له بتلك الوظيفة...، مضى زمن طويل وانا أستحضر كلماته الباردة، السمجة، تلك التي ارتبطت بدفء آخر، قادني لخطيئتي الاولى ثم الثانية... كنتُ اراها للمرة الاولى حين أقبلت برداء النوم، لتنضم إلينا، كانت في مثل عمري، لم اكن قد رأيتُ طفلة بمثل طلعتها، لها طلة تأسر النظر كأنها البدر في ليالي "جفنا" حين يحلق فوق الكروم ، لبثنا نتبادل نظرات لا معنى لها، ثم تحولتْ إلى سلة المشمش، شهقتْ للّون على مسمع الكل... أذكر إغماءة الشهقة لحظتها حين تبدى شَبَهٌ لافت بين وجنتيها ومشمش قريتي...
كنتُ بدأتُ افتقد لقامته وهي تجول بين غرف العقد والباحة، فادركتُ أن "راجي" قد رحل، وان "أم حنا" قد كبرت عشرين سنة اخرى، لم تعد تهش في وجهي، أرخت "شالاً" إضافيا على رأسها ووجها، لكنه لم يكن ليحجب الكثير من بعض الدمع ورباطة الجأش لديها، في ليالي الصيف كنتُ أدس جسدي تحت غطاءها في حذر، فتحضنني بعينين مغمضتين حتى الصباح، لم أشرك احداً بسر ذلك الشبه المؤرق بين "ميرنا" ومشمش "جفنا" سوى رفيقي الوحيد..."سعدي" ابن الشيخ "محمود"، أشار في لحظة توهج نادرة: تلتقيها امام المدرسة في بيرزيت... ساكون برفقتك، ثم نقرر ما نفعل... كنا قبلها نبدد الوقت بين الحقول نمشط الطرقات المعشبة، أو نسطو على ثمار الحواكير السائبة في "جفنا"، وغالباً ما نوقد النار في أكوام أعواد القصل الجافة، ثم نفر، إلى أن وقعتُ أسيراً بين خديّ "ميرنا" صباح ذلك اليوم الحزيراني..، فلم يعد بي رغبة لكل ذلك، وجنتاها ثمرتا مشمش طازجتان...لديك كل الحق،إكتفى "سعدي" بهذا الوصف وهو يحدق إليها في استغراق أمام مدرسة الراهبات في بير زيت، تخلفتْ "ميرنا" عن الركب في طريق العودة، حين رأتنا، كنا نهبط الوادي نحو "جفنا" ، أما هي فأرتقت إلى التلة المشرفة، درجت فوقها كطائر حجل، دون ان تشيح ببصرها عنا، شيعتنا حتى توارينا خلف اشجار الزيتون على مشارف القرية، مضت في تفاوت لكن على نحو مماثل أيامنا التالية، حتى أستوقفتني ذات يوم في منتصف الطريق بين المدرسة الاهلية ومدرسة الراهبات، حدثتني بثقة مفرطة، امام عرق بارد نضحه جبيني، مشينا بعد أن خلصتني مما حولي، مررنا بمعمل المجدلاوي للنسيج، حتى وصلنا لمفترق الطريق والذي يؤدي "لجفنا"، هناك حدثتني عن شغف لا مثيل له بمشمش قريتي، وانها قد اتت على سلة المشمش بمفردها بنهم...في ذلك الصباح...، سردت ما حدث على "سعدي" فأطرق ولم يبد مشورته كالمعتاد، لكنه طلب وقتا للتفكير، وقال وكأنما يحدثُ نفسه: طبعا هي لا تعلم بأن موسم المشمش قد ولى ويجب عليها الإنتظار لسنة أخرى...وفي الوقت ذاته علينا أن نلبي لها رغبتها...، بانتظار لحظة إشراق او توهج فكري، مضى "سعدي" لبيته، وانا بقيت ساهما، أرقب قرص الشمس وهو يغطس بوهج برتقالي خلف البحر وراء الافق البعيد.
في اليوم التالي وفي المكان ذاته، وأمام همس العاملات في معمل النسيج، كان يعز على قلبي أن تعبث الخيبة بترتيب الملامح على صفحة وجهها... لكنها تداركت الأمر رأفة بي...لأستعيد القليل من تلك النضارة: حدثتني ذلك الصباح عن كتاكيت وافراخ ملونة تسرح في فناء بيتكم... أليس كذلك؟


- بلى...


- هل لي ببعضها...


- بكل سرور


لكنها لم تكن تعلم بان الحصول على مشمش "جفنا" بعد أوانه، هو أسهل بكثير من أن تتخلى "أم حنا" عن فرخ واحد،...تمليتها بنظرة فاحصة، فمنحتني جذور ابتسامة رسخت عميقاً في شغاف قلبي، ومضيت بسرّي حائراً أطلب العون من رفيقي، لكنه ظل صامتا في طريق عودتنا، أمام سلسلتي بيتينا المرصوصتين بالشحف الصخري، وتحت شجرة "الجميز" المتفرعة، كان يجود بالكثير حين خرج عن صمته في ظل إشراقة مفاجئة، حين قال: ستحقق لها الامنيتين معاً...


- كيف؟


- دع معالجة سويقات ثمار المشمش لي، فقط اطلق سراح أفراخ الدجاج من القن ثم طاردها في الفناء، تلك الأفراخ سوف تفر من خلال الجزء الخلفي المسيج بأشجار الصبار...فهذه السلاسل سوف تعيقها حتما، ساكون بانتظارها على الجانب الآخر ... فلا تخف.
في ذلك اليوم أبرقت السماء وارعدت، في أيلول، وأنا أرى للمرة الاولى قبعة كذيل غراب تخفي رأس رجل غريب، وقلادة لصليب معلق بسلسلة فضية، رصعته الحجارة الكريمة ببعض ألوان قزح، لتنهمر مطراً سخياً على خدي "أم حنا" ذرفته السماء في صمت...
الشماس المكلف بمراقبتي في باحة الدير بدأ يأنس لوجودي، شاركني لحظات التأمل، ثم الجلوس إلى جانبي تحت السروة، هل ذهبتَ بعيدا؟ سألني بلطف بالغ...إلى نحو سبع سنوات خلتْ...،اجبته، حدثني عن رداءة الاوضاع بعد مشروع التقسيم، ما لم اعرفه، هو أن الانجليز قد شرعوا فعليا بالانسحاب من المدن الكبيرة بفلسطين، توسمت خيرا، ولاح طيف "ميرنا" مصحوباً بأيام اكثر بهجة، لكنه افصح عن مخاوف تشغل الجميع: الخشية فقط من ذلك التواطؤ بينهم وبين عصابات اليهود...لم افهم ما يعنيه، لكنه تابع... الأثنين القادم سأغادر إلى يافا بسيارة الدير كي اطمئن على والديّ... بدا قلقاً، أما انا فقد جرفني طيف "ميرنا" نحو ذلك اليوم البعيد، إلى النزهة المعتادة واليومية، برفقة "ميرنا"... من ملتقى مدرستي الراهبات والاهلية للبنين وإلى معمل المجدلاوي للنسيج في "بيرزيت"، تضمني "أم حنا" إلى صدرها... تحت طائلة التقريع من بقية النسوة في العمل: صار شاباً لا يليق بك أن تبالغي في دلاله... في الثانية عشرة من عمره الآن...، تقبلني، تسألني عن يومي، ثم تسلمني مفتاح العقد قبل أن تعود "لنول النسيج"، لأمضي إلى "جفنا" برفقة "سعدي"، مودعاً "ميرنا" عند نفس التلة، لتقفل وحيدة في رجعوها إلى وسط بيرزيت... خطفت عقلك إبنة الخواجا "حبيب"...تقولها بسخرية ولكن بمكر، لم تصفى بعد "أم حنا" لتلك العائلة، تحملهم بعضاً من مسؤولية موت "راجي" ، على الرغم من ذلك الشعور العارم للخواجا بالذنب، ومحاولاته للتكفير عنه قدر المستطاع، فقد تدبر عملا مريحاً "لأم حنا" في ذلك المعمل والذي يمتلكه مناصفة مع الحاج "المجدلاوي"، بدأتْ مشرفة على العاملات هناك، لينتهي بها الامر –خلال فترة قصيرة - كمسؤولة أولى عن إحتياجات المعمل من الصوف وصيانة الأنوال، مما اتاح لها فرصة النسج وعلى نفقتها الخاصة لأبناء الفقراء من رواد الاديرة المجاورة...هل هو خواجا يا امي...سألتها ذات يوم في فضول...لترد في استخفاف...من أين له ذلك...حسرة عليه، هو فلاح إبن فلاح ومن "جفنا"، لكن...، تلفظ تنهيدتها المعتادة قبل أن تكمل ...فقط لأنه تزوج من يافاوية، نساء يافا يكتحلن برماد الجنيات يا ولدي... فأحذرهن...، كيف؟، أنطقها ببلاهة الصغار... يا ولدي، ظلت تكتحل له حتى سلمها زمام الطاعة، باع ارضه وبيت اجداده، ليسكن بها بلدة "بيرزيت"... ولن تقف عند هذا الحد..صدقني ستسحبه معها إلى يافا ذات يوم.


تحل العطلة المدرسية، فترتسم البهجة على وجوه الجميع، الصبية والكبار، إلا أنا...فلم تكن لتنشر حولي أكثر من شعور ثقيل بالفقد والحرمان، ليغدو أكثرها قسوة ذلك الحرمان من متعة التنزه برفقة "ميرنا"، يتهيأ الجميع في "جفنا" لموسم قطاف المشمش، ثم تليه "الحصيدة" لتبدأ حكايا الجن وأمنا الغولة في سهر الليل الطويل حول الفوانيس على بيادر القمح والشعير عند أطراف البلدة، ترتسم على وجه "سعدي" ملامح جديدة مختلفة مفعمة بحب السهر وروح المغامرة، كنتُ الوحيد الذي يعود إلى صدر أمه في المساء، أقفز إلى حضنها حين يجن الليل، وحيدين كنا نطارد بعيون ناعسة ذبالة المصباح وهي تذوي مخلفة ظلاً باهتاً على الجدار قبل ان نغفوا...






أواخر الأيام، والتي سبقت عطلة الصيف، بدت لي "ميرنا" ساهمة وحزينة، تطيل من فترات الصمت خلال نزهتنا القصيرة، قبل ذلك، شرعت تزج بأحاديث جانبية عن "يافا" بلا مبرر، ثم لم تلبث أن غدت موضوعها الأوحد والمفضل، حدثتني عن بحرها المالح، و بيت جدها لأمها في حي "أبو كبير" بالقرب من كنيسة "طامينا"، عن بيارات البرتقال وسوق "بسترس" والحانوت الذي يملكه جدها هناك، عن شارع سانت جورج وميدان الساعة، عن مدرسة "تراسنطة" و الإحتفالات السنوية على نهر النبي روبين...حتى إنقضت أيامنا تلك ولم يبق إلا يومنا الدراسي الأخير، عند مفترق التلة بدت أكثر حزنا من أي يوم آخر، قالت: غدا سأذهب ليافا برفقة والديّ...، أعلم...أليس هذا برنامجاً سنويا لديكم؟ كنتُ اعقب مستنكرا حزنها... لكنها لم تمهلني، فقط أشاحت بوجهها لتقول: ربما يختلف الأمر هذه المرة...ثم راحت تجري مبتعدة، لم تنتظر عند التلة كعادتها حتى نتوارى، ولم تودعني...






ولت أيام الحصيدة وموسم قطاف الفاكهة، وحين اعتدل الطقس في الليالي المقمرة، شرعت ام حنا كغيرها من نساء القرية بالتحضير لجمع المؤونة وتخزينها لموسم الشتاء، عمدت إلى تجفيف العنب بعد دهنه بالزيت، فرشت نبات البلان على سطوح غرف العقد تمهيدا لنشر الفائض من ثمار التين، واظبت على طحن القمح وخلطه بالذرة البيضاء لأيام، عمدت إلى تحضير الاواني وجرار الفخار لخزن "الزبيب" و " القطين" والدقيق والدبس والمربى، كل ذلك بعد أن تعود من معمل النسيج.






هكذا أنا دوما، كلما فاجأني خبر صاعق، إجتاحتني الهواجس ليغدو الكثير منها أحداثاً ملتبسة، ففي صباح ذلك اليوم التشريني... كنتُ أجمع بعض التين المجفف في حقيبة القماش المدرسية "لميرنا" مع أول يوم لنا في المدرسة...حين لم تتوان "أم حنا" عن إفراغها بعد أن خطفتها عنوة، وهي تكرر بقسوة على سمعي أشياء يصعب تصديقها عن "ميرنا"، ويصعب على واحد مثلي ظل يحلم وينتظر لأيام طويلة مرت كالجبال لتنسف حلم إنتظاراته في لحظة، رأيتُ بعدها "راجي" للمرة الأولى بعد رحيله، وهو يعبر الفناء بقامته الطويلة، ثم وهو يرفعني بين يديه، وحين أدعوه بأسمه تنهال أصوات غريبة من حولي، ليبدأ بالالتفات من حوله في فزع، يهرول حين تقترب منه أمي فأصرخ به أن ينتظرني كي أذهب معه فلا يصغي إلي... لا تلتفت إليه "أم حنا" بدورها وهي تسرع نحوي برفقة إمراة اعرفها...الحمى سلقتْ جسده يا أم "سعدي" ...يهذي منذ الصباح...ماذا افعل بحق الرب، يا يسوع ألهمني... تبدل كمادات الماء البارد، إذا إنتظرت "بترسون" حتى يمر بالمركز الصحي في موعده الأسبوعي... سأفقد الولد...عندها سأفقد عقلي...، حالته ليست سيئة يا "ام حنا"، خوفك لا مبرر له سوى أنه ولدك الوحيد... على أي حال سأرى ما يمكننا عمله لخفض الحمى، ثم تتركنا "ام سعدي" وتذهب...مسحتْ جبهتي بالميرون المقدس، تناولت قلادة الصليب المرصع بالخرز من غياهب الصندوق الخشبي ، علقتها في عنقي، لم تكتف... خرجت مسرعة تتعثر في خطاها لترجع بالشيخ محمود والد "سعدي"، ليجلس عند رأسي، كان صوته جميلا ورخيماً ظل يتلو ما تيسر ...حتى غبتُ في سبات عميق.






سلبتْ عقله "ميرنا" إبنة اليافاوية...كانت تبوح لأم "سعدي" وانا على وشك المغادرة، بلا همة... قلتُ "لحنا" ذات يوم... لن تكف عن زوجها الخواجا حتى تجره معها إلى يافا... وقد فعلتْ.






لم يكن سهلا أن استوعب ما حصل، كيف للخواجا أن يبيع بيته وحصته في معمل النسيج للحاج "المجدلاوي" كي يشتري "سكنة" في حي أبو كبير وحانوت صغير في سوق "بسترس" ...وأن أحتمل بلادة الأيام القادمة وهي تمر ثقيلة بلا طعم أو روح بين المدرسة الاهلية في "بير زيت" وحقول المشمش في "جفنا"، بلا "ميرنا" ... جلبتْ على نفسي برحيلها كآبة سوداء، جعلتني أتخلف عن رفاق القرية في كل يوم لأصعد الطريق المبلطه، مرورا بتجمع "الدكاكين" في السوق، والمصبنة، قاصداً بيت الخواجا عند السفح، لأجلس امامه بانتظار عبثي لوافد لن يأتي ونافذة موصدة لن تفتح...كان "سعدي" ممن يرثون لحالتي ، نال منه التأثر حدا جعله في حالة تأمل دائمة وهو يبحث عن حلول متاحة، أم حنا المكلفة بتزويد بكرات النسيج بخيوط الصوف الحر، تشتريه بزيارة خاطفة من أسواق يافا، مرة كل شهر، تعلقتُ بأذيال ثوبها للمرة الأولى، نهرتني مستهجنة لما أبديته من إصرار، بكيتُ وأخذتُ أستحلفها بروح "راجي"، لكنها أبتْ بحزم وقسوة، جلستُ تحت شجرة الجميز على الطريق وأخذت انتحب، كانت يد "سعدي" هي الاقرب، وهو يقول : إنها تخشى عليك ...لديها كل الحق. حدثني والدي عن تدهور الأوضاع هناك وعن التصعيد المرتقب للثورة بعد قرار التقسيم، الانجليز يا "حنا" يريدون أن يخرجوا من بلادنا بعد أن يمكنوا الصهاينة من السيطرة على البلاد... لم أفهم ما الذي قصده "سعدي" واجبته على الفور: و"ميرنا"...؟ لا عليك ...لدي حل سوف يرضيك مؤقتا...قم معي الآن.






لاحقاً كان يضع بين يديّ حمامة طيارة... هذه سليلة الأبراج الشاهقة، من يافا إلى قفص حقير في "جفنا"، أمر لا يحتمل، اكتبْ ما تريد قوله "لميرنا" على قصاصة ضع عليها اسمك حتى تعرف انها منك...لكن كيف؟ أكتب فقط... حررت لها رسالة على قصاصة ، طواها "سعدي" بعناية، ربطها في عنق الحمامة، واصطحبني معه إلى التلة الغربية من البلدة، هناك اطلقها نحو الغرب...أحيا ذلك الامل لدي من جديد، وانتظرت اياماً ولم يصل رد، كرر "سعدي" المحاولة، مع حمامة اخرى، وأنتظرت ...ولكن بلا طائل، وثالثة اطلقها "سعدي" في فضاء جفنا مؤكدا أن "ميرنا" ستفهم كيف ترد وان عليها أن تصعد لأعلى مكان في يافا كي تطلقها نحو الشرق...خالجني بعض الإرتياح، فيما رحتُ ارقب النوافذ وأتابع أسراب الحمام الطيار في سماء القرية، حتى علا نداء "أم حنا" وهي تهتف منزعجه بإسمي، توجست لذلك النداء، أدركتُ حقيقة الأمر حين وقع بصري على حجرها وقد طرزته تلك القصاصات الثلاث...ماهذا يا حنا...ألم ننتهي من إبنة الخواجا حبيب...حتى تكتب لها رسائل الغرام،... عقدت الدهشة لساني، لأقف امامهاحائراً... كيف عرفتْ وهي لا تتقن القراءة...؟ أسراب الحمام تعود إلى أعشاشها آخر النهار يا فهيم، وام "روبين" لم تتوانى عن إحضار هذه المكاتيب بعد أن عرفت انها منك...في اليوم التالي كان "سعدي" متكدراً يلوم نفسه وهو يردد : كيف فاتني ذلك ...لا بد أنه الزاجل...بل هو الزاجل... وليس حمام "أم روبين"...






بعد الذي حدث اشفقت عليّ "ام حنا" لتهمس لي في إحدى الامسيات: الآن عرفت لم تريد مرافقتي إلى يافا... في المرة القادمة ستذهب معي...لا عليك.






حتى ذلك الحين، كان لابد لرأس السنة واعياد الميلاد أن تهل علينا ككل سنة، في ليلة الميلاد واعياد القيامة يقصد الجميع "جبانة" القرية، ليزوروا قبور موتاهم، وحدنا أنا وامي، تأخذنا الفجيعة ولا نحرك ساكناً، منذ سبع سنوات، و"ام حنا" تحيا فجيعتها بلا شاهد أو قبر تبكي عليه، فقط تلوذ بصمت مطبق، تعمد لصندوق عرسها المركون كقبر، تعانق قلادة الصليب، تشتم رفاة "راجي" من خلالها، ثم تتواري عن ناظري، هذا العام أرخيت سمعي جيداً...كانت تنوح خلف باب حجرتها بحرقة، حين رأتني، مسحت عينيها، بأكمام ثوبها، وهي تقول: لم يبق لي غيرك...وهذه القلادة.






غمرتني عاطفة مشوبة بفرح هستيري، وانا التقيها، نضجت وتبدلت بعض الملامح لديها، غدت يانعة فتاة في ثياب إمراة تجاوزت سن الرابعة عشرة، كل ذلك في شهور، وجنتاها أضحتا بلون المشمش المستكاوي، أينعتا مبكراً، خطفت يدي بفرح مماثل، ثم همست: إلى البحر...سآخذك إليه...ستأنس إلى الرملة البيضاء على شط يافا...


يافا هدير البحر الأزرق وأسراب طيور السمان المهاجرة في أواخر آذار، تكتظ الطرقات بأناس يسيرون في كل إتجاه، دوريات عساكر الإنجليز الراجلة تدب في المكان، ترقب الجميع في حذر، هبطتْ بي ادراجاً حجرية كثيرة، أشارت لمبنى من طابقين توسط سورا حفته اشجارٌ عالية، هذه مدرسة "تراسنطة"... مدرستي، إنعطفتْ مسرعة نحو طريق أخرى قالت هذا المنعطف الاخير لحي "المنشية" ثم نستقبل البحر، بهرني صفاء موجه الازرق في إندفاعاته الرتيبة، وتكسرها في حنو عند اقدامنا على الرملة البيضاء، اندفعت نسائم خريفية استقبلتها "ميرنا" بإغماضة ساحرة في مواجهة الأزرق، حررت ضفيرتها، نثرتها خصالاً ذهبية مموجة ترامت على الصدر و الكتفين، فردت ذراعيها تستقبل الموج وقالت بلا مقدمات: حنا... هل تحبني؟ لجمتني المفاجأة، عقدت لساني، منحتها تلك الإغماضة جرأة الموج في تمرده على صفاء الصفحة الزرقاء، قلدتها بإغماضة مماثلة وذراعين تستقبلان النسيم...:بلى يا ميرنا...احبك.


- وانا احبك ...يا "حنا" ...لكن ماذا فعلتَ حتى لا يفرقنا الإنسان؟


- لم أفهم...


- الا تواظب على حضور الصلاة في الآحاد، والاستماع للعظة...الا تعلم بأن ما يجمعه الرب، لا يفرقه الإنسان... لم يكن بوسعي سوى اختيار سروة معمرة في "دير طامينا" بيت الرب لأنقش عليها اسمك...


طغت رائحة البرتقال على وخم البحر، حين فتحت عينيها، أضحكها البحر وهي تلم خصلاتها من بين امواجه التي تراخت في تراجع النسيم، امسكت بيدي واخذت تجري، إلى أين يا "ميرنا" ؟ هتفت وانا اختنق بشذى البيارات... إلى الدير، إلى السروة ذاتها...عليك ان تقوم بالمثل...عندها يتحقق الجمع.






تخطينا حي المنشية إلى العجمي، تكاثر الناس هناك ...عند ميدان الساعة، كل الشوارع في يافا بدت وكأنها تصب فيه، قبل قليل لفظتنا الحافلة انا وام حنا على حافته، وهناك ايضا كان بانتظارنا ما لم يخطر ببال، كنا على وشك تخطي الميدان باتجاه حي ابو كبير، حتى علا صوت إنفجار ضخم صم آذاننا، أحدث جلبة هائلة بين الناس، رافقه تطاير عشوائي لشظايا من الزجاج والحجارة، تلاه إطلاق كثيف للرصاص، كان مبنى "السراي الحكومي" المحاذي مسرحاً لذلك، تسارعت الاحداث، تفرق الناس في فزع، تسمرنا وحيدين في ذهول وخوف وسط الطريق، التصقت بي "ميرنا" وهي تصرخ قبل أن تمتد نحونا قبضة ثقيلة قوية، حملتنا إلى مكان مجاور في لمح البصر، تبيناه على الفور، كان مقهى يكتظ بالمرتادين، دون أن نلمح أو نتبين صاحب تلك القبضة.






غروب اليوم الثاني في دير التجلي، التراتيل الليلية تنساب هادئة نحو الباحة الخلفية لتضفي خشوعاً محبباً على الأشياء، الشماس المكلف بمراقبتي، صار مرافقاً ودوداً، بدأ يصغي باهتمام لما اقول، استعين بصبر مضاعف في التغلب على حرمان يعمقه اشتياق عارم راح يجلدني بسياط من نار، تبعد بضع خطوات عن هذا الدير في قلب رام الله بينما اقبع معاقبا هنا ولا اقوى على رؤيتها، مضى شهرين ونصف على تلك الحادثة في ميدان الساعة، إتخذت منها "أم حنا" ذريعة للذهاب إلى يافا من دوني، كلما توسلتُ لها عصفت بوجهي: ألا ترى...ألا تسمع، الدنيا على كف عفريت وانت لا تفكر إلا بست الحسن...لألوذ بشجرة "الجميز" كاسفاً وحيداً، كنتُ أستعيد ساعاتنا القليلة في يافا بشيء من الفرح، كانت ذكرى صغيرة لكنها كافية لتؤنس وحدتي، كنتُ أبغي الذهاب رغبة مني باتمام النقش لتضم إسمينا شجرة واحدة في دير "طامينا" ...لكن هيهات.






لم يكن بوسعي سوى ألإمتثال لرغبة "ميرنا" بالمواظبة على صلاة القداس في الآحاد، والإنصات للعظة، أمضي طائعاً برفقة "أم حنا" إلى "مار قديس" في بيرزيت مع صباحات الآحاد، أخرجتْ قلادة الصليب من صندوقها الخشبي، وللمرة الاولى طوقت بها عنقي وهي تقول: الآن كبرتْ يا حنا ويليق بك أن تزهو بها في الصلوات...كي يزهو بها أبوك بدوره، ثم تشملها الحسرة، فنمضي بصمت مشابه لسكون الصباحات الندية في "جفنا"... لتنتزعها مني فور مغادرتنا للدير، وهكذا حتى جاء يوم أعدتْ فيه ثلاثة سلال من القش ملأتها بخيرات الحقول، وهي تقول: سأستعين بك هذا الاحد في حملها إلى رام الله...كان أمراً مفاجئاً، ولم رام الله؟ سألتها ببراءة، ...سوف نقصد "دير تجلي الرب" للصلاة هناك...، لكن لم رام الله؟ رمقتني بنظرة ماكرة: حقاً لا تدري؟... أبدا يا امي... الخواجا "حبيب " برفقة العائلة في رام الله...نزلوا بالامس في فندق "عودة"...وقد أتى لأمر لا نعرفه... لكن علينا أن نرحب به كما يجب.


كنتُ أفرُّ من العظة بقلب يتراقص شوقاً للقاء "ميرنا" بحثتُ في باحة الدير عن سروة معمرة لأعيد ترتيب الطقوس الجمعية والتي لم تكتمل في "طامينا" نقشتُ اسمها على هذه الشجرة في غفلة من المصلين، وأنا ازهو بقلادة الصليب، وفي الطريق لفندق "عودة" رجوت امي ان تبقيها بحوزتي حتى المساء، فأذعنت على مضض، كان لقاء لا يوصف بميرنا واهلها في ذلك الصباح الربيعي، فقط حذرنا الخواجا "حبيب" أنا وميرنا من الإبتعاد عن ذلك الفندق، وهو يؤكد بأن البلد تغلي في كل المناطق بعد شروع الإنجليز بالرحيل الفعلي والمنظم عن فلسطين في تواطؤ علني بتسليم مواقعهم للعصابات الصهيونية...ثم كان ما كان في باحة الدير، حين فرت هي بالقلادة... وبقلبي...


ربت الشماس على كتفي في تأثر، غدا صباحا تغادر الدير بمشيئة الرب... لا عليك... قالها في ثقة، ثم غادر، لم انم تلك الليلة حتى طلع الصباح، تحاشيت رؤية "الأرشمندريت" صافحت الشماس بحرارة، وغادرت أسابق الأزقة والطرقات الخالية في رام الله... طالعني الفندق القديم، ببوابته الكبيرة واشجاره العالية، دلفت مسرعاً لأجد بانتظاري أرضاً رخوة تتحفز لإبتلاعي وهو ما لم يخطر لي ببال، نعم ايها الفتى لقد غادروا مساء الأمس... إلى جهة غير معلومة... كانت تلك السيدة تكرر مؤكدة وهي تقبع خلف طاولة الإستقبال في البهو الرحب للفندق، وانا اكرر عدم تصديقي حتى غامت الدنيا في وجهي واخذت أهيم في شوارع المدينة غير مصدق لما سمعتْ، كيف أبرر لأمي ضياع القلادة؟ وميرنا... اين هي الآن يا ترى، ولم عادوا إلى يافا بهذه السرعة؟


بعد مساء مثقل بالتردد بين البساتين في "جفنا" كنتُ أواجه أم حنا بكل شيء، هيأتُ نفسي لأقصى عقوبة، لكن الذي حدث كان أقسى بكثير، لم تصرخ في وجهي أو توبخني، فقط غشيها صمت غريب ومسحة عميقة من تراكم أحزان قديمة مزمنة وهي تلقي بجسدها المسربل بالسواد أمام عتبة البيت قبل أن تدخل وتغلق على نفسها باب غرفتها بعد منتصف الليل، وهو ما لم يحدث من قبل... لم تغادر حتى ظهيرة اليوم التالي، سمعتُ صرير الباب ركضتُ في قلق نحوها، كانت تقف على مدخل الباب شاحبة خائرة، ملامحها تستعصي على الفهم، ساهمة وكأنها تنظر إلى شيء بعيد...وغير موجود...نطقتْ بصوت متعب، أدعو لي "ام سعدي"...فورا.


توالت الأيام القليلة وهي على تلك الحال، لم تعد تذهب إلى معمل "المجدلاوي للنسيج" في بيرزيت، ولم تكن لتبرح غرفتها، إلاّ لحاجة شديدة، غدت طريحة الفراش، من دون علة واضحة، كنتُ أدرك في قرارة نفسي بأنني السبب، وبانني سأفقدها إن لم أستعيد القلادة، تذكرتُ ما قاله لي الشماس في الدير، فعزمت على تنفيذ أمر لابد منه، في فجر ذلك اليوم، كنتُُ أختلس نظرات مطولة إلى جسد "ام حنا" المكوم على الفراش، أقصى الزاوية، تبينت بعضاً من وجهها المستكين، ثم غادرت مسرعاً قبل أن يدهمني الفتور.






مع بزوغ أولى خيوط الشمس كنتُ إلى جانب الشماس في سيارة الدير وهي تطوي بنا المسافة بين القدس وبيارات يافا بسرعة معتدلة، هل انت واثق من معرفة مكان "أم حنا" في يافا؟ نعم يا سيدي...بهذا كنتُ أجيبه طوال الوقت...منحتُ نفسي مبرراً لكذبة جديدة أضفتها لخطيئة الدير في سبيل الوصول "لميرنا" واستعادة القلادة...على مشارف المدينة طالعنا برج مرتفع مسيج بأسلاك شائكة لم يلبث أن تحول إلى مصدر هائل لإطلاق الرصاص صب نيرانه نحونا بشكل جنوني، الشروع برسم إشارة الصليب هو آخر ما فعله الشماس وما علق في ذاكرتي قبل أن تدور بنا الأرض دورتها الأبدية نحو ليل ملتبسْ لم تطلع له شمس إلا بعد شهور على الأغلب من تلك الحادثة.






في تواصل الليل، تكمن المشكلة، وتلك الوجوه اللاتي تحيط بي، وهذا الألم المتصاعد من ساقي لا يفارقني، قبل أن ينقشع الغباش وتصفو صورة المكان أردد: لا تأخذوني إلى "ام حنا" بدون القلادة...يجب أن أستعيدها اولاَ...، تتفرق الوجوه في رثاء وريبة، "لهف قلب امك...كيف طاوعها أن تفر من يافا بدونك؟ صوت المرأة الطيبة يأتيني قبل أن تنجلي الصورة تماما في تدفق مفاجيء لشريان الذاكرة، فأعتذر مؤكداً بأنها لم تفر...هي في "جفنا" وانا من أتى ليافا بحثاً عن "ميرنا" إبنة الخواجا...وعن القلادة، لا أحد يصدقني...متى ينجلي الليل؟ ألن يطلع الصباح؟ زوج المرأة الطيبة... "أنطون الحن" يربت على كتفي بيد حنونة، يا بني منذ شهر تقريباً وانت على هذا النحو، منذ عثرت عليك حامية الثوار...أنتَ والشماس...، أنتفض حين أتذكر "الشماس"... وأين هو الآن؟


- كم مرة سنقول لك..لقد قضى شهيدا إلى جوار الرب، تلقى الرصاص نيابة عنك، لقد كان يحتضن جسدك النحيل ... افتداك بنفسه.


لقد مرشهر، مالذي حل بأم حنا يا ترى؟ وجهها الشاحب، لا يفارقني كلما صحوت، يثير لدي المخاوف والقلق.


كان يصل لسمعي في ساعات اليقظة حوارات البعض ممن ضمهم بيت "انطون الحن"، كان جلها يحكي عن وصول الجيوش العربية وأن التخلص من عصابات الصهاينة وتحرير يافا بات وشيكاً، وحتى ذلك الحين يسعى السيد "انطون" لإصدار تصريح لي من تلك العصابات، يخولني بمغادرة حي " العجمي" ذلك الحي الذي تحول إلى معتقل كبير، جمعت فيه تلك العصابات من تبقى من أهل يافا، واحاطته باسلاك شائكة، كان السيد "انطون" في ساعات اليقظة يقترب من فراشي مؤكداً: يا ولدي لم نعثر على الخواجا حبيب أو عائلته بين من بقوا في يافا...أحاول أن اتذكر متى أوصيته بالبحث...فتشملني العتمة بذلك الليل الموصول لأمضي بلا وعي من جديد.






يافا تبدلت، وخشيتي تتفاقم ماذا لو حررت تلك الجيوش العربية يافا قبل عثوري على ميرنا والقلادة، كنتُ في سباق مع الوقت... ومع عتمة الليل، عند ظلمة الحاجز الشائك أوصاني الرجل الطيب بضرورة الحذر وهو يسلمني تصريح المغادرة، للمرة الاولى أشهد الفجر وأولى خيوط الشمس وهي تنير مدينة غريبة، لم أعرفها، لافتات بأحرف غريبة لشوارع خالية، قلنسوات وقبعات غريبة تظلل وجوهاً بملامح حاقدة تخفي تحتها رؤوساً تشبه الافاعي المجلجلة في أدغال قريتي، سوالف تتدلى حتى الكتفين، هل يعقل بانهم اولائك الصهاينة، قبل أن اعبر الحاجز سألت السيد "أنطون" لم كل ذلك الليل؟ تبسم في وجهي وهو يقول: كنتَ تذهب في غيبوبة اثناء النهار وتصحو مع الليل ...هذا كل شيء يا فتى، ساقك الآن بخير، فالرصاصات لم تصبها إصابة مباشرة...حفظك الرب.


ن البحث عن "حي أبو كبير" ضرورة للوصول لبيت الخواجا حبيب، لكن المحاولات العديدة لم تفلح، لم يكن هناك ما يشير إلى ذلك الحي، او غيره، حاولت إعتصار الذاكرة لكني فشلت، مع تهيؤ الشمس للمغيب تسرب اليأس إليّ، ولم أفق إلا وانا أقف أمام دير ضخم... "طامينا" ، لمعت ذكرى غالية على قلبي وانا اتذكر "ميرنا" احسست بأمل يتجدد وانتعاش مفاجيء شمل اطرافي، وقفت على بوابته المشرعة، ترددت للحظات بالدخول، لم يخطر ببالي مطلقاً بان اللحظة التي سألج فيها ذلك الدير، ستكون الاخيرة، وبأنني لن أغادره إلا بعد زمن طويل...






عند بوابة الدير ذاتها وللمرة الاولى منذ تسعة عشرة عاماً، كان الفتى يرتدي ثوب ذكرياته القديم، خلعه هناك ليبقى معلقاً بانتظار خروجه طوال تلك السنين، غادر الفتى دير "طامينا" شاباً يافعاً في مقتبل العمر محتفظاً بصورة باهتة لأم حنا حفظتها ذاكرة سقيمة ضاقت عليه الآن، طوتها سنين الانتظار وصلوات المغفرة، بعد هزيمة الجيوش العربية في حزيران، أقرّ الأب "مارون" راعي الدير بسقوط يافا وهو الذي حرم الخروج على نفسه طوال أعوام النكبة وما تلاها من وقائع، هل كان يحتاج إلى كل تلك السنين ليقر بذلك؟ رحمه الرب... لم يحتمل، فقضى بعد خروج أول زائر ليافا جاء به شغف الأشتياق من مخيمات النزوح ليرى مدينته يافا وديره القديم...لم يكن يقلقني ما حل بأم حنا فلا بد أنها قد قضت هي الاخرى، أدركتُ ذلك بحدس الإبن، فقط مدى معاناتها وعودتي إلى "جفنا" من دون القلادة كانا أمران ينفطر لهما قلبي، حين جلست للأب "مارون" راعي الدير، غمرني بعطف لا يوصف على الرغم من عدم تصديقه لقصتي، وأنتظرت في قلق أن نعثر على النقش الذي حمل اسمي في حديقة الدير، رافقني في البحث بين جذوع اشجاره الوارفه والعديدة بتمهل كبير، حتى عثرنا عليه نهاية المطاف في ذلك المساء البعيد، كان النقش جرحاً نقياً على جذع سروة قصية، بقي النقش وذهبت صاحبته إلى غير رجعة، أحتسبه الأب "مارون" بمثابة الدليل القاطع على صدق حكايتي أمامه، فاوصى ببقائي في الدير، حتى تنجلي غمة المدينة ويرحل الصهاينة، أكد لي يومها: هذه العصابات لن تصمد امام جيوش جرارة...صدقني يا بني، نزلتُ عند طلبه ورضيت بالبقاء تكفيرا لنفسي عن خطيئتها، بدأتُ أعتاد الكنيسة أواظب على صلواتها طلباً للمغفرة، حتى أحتسبتُ نفسي خادما مطيعاً لبيت الرب مخلصاً له ما حييت...،


لم تفلح وساطة الأب مارون في ترحيلي عن طريق منظمة الصليب الأحمر أو ممثلي هيئة الأمم، ولم يعترف بالخطوط الجديدة، خط الهدنة، أو خط التماس الأخضر، وكان يؤكد بأن هذا الوصف مستفز... كيف له أن يكون أخضراً؟ فالجيوش هناك لم تزل تنتظر...هذا غير واقعي يا "حنا"...، ولكنني سلمت بقضاء الرب وواصلت خدمتي لبيته وواظبت على الصلوات طلبا لهدأة الروح والمغفرة، ولم اعد أفكر بميرنا او بأمي، وكنتُ أرى في المنام، ما يقربني من نفسي، فتهدأ روحي وتستكن، حتى كان ذلك المساء، حين غفوت متعباً عند مذبح الدير، فرأيتُ أمي وهي تعجن للفقراء تحت السروة العتيقة في دير التجلي برام الله، فافزعني المنام... وأثار حنيني، فخرجت أجري إلى حديقة الدير في "طامينا" تعثرت بالأب "مارون" ولما سردتٌ عليه المنام، بشرني بالمغفرة وبالعمر المديد، وبأن الرضى يسكن قلب امي أيضاً... وبأن اللقاء بات وشيكاً بيني وبينها، كنتُ أضيء شموع المذبح وقت الصلوات، قلةُ ممن طواهم الزمان في حي العجمي، كانوا يحضرون للمشاركة في تلك الصلوات، كنتُ أفرح عندما ألمحُ الرجل الطيب "انطون الحن" برفقة زوجته العجوز بين الحاضرين، كانا يباركان وجودي في الدير بلمسات حنونة، فيخففان عني الكثير، اعتدتُ على حضورهما بانتظام، وكلما هاجني الحنين لأمي تسللتُ إلى المذبح لأغفو هناك لتهب على الفور رياحٌ غامضة تحمل نحوي رائحة الطابون وانفاس دافئة معطرة لأم حنا، فأصحو منتشياً، وكلما قادني الحنين لأيامي البعيدة برفقة "ميرنا" خرجت لساحة الدير نحو جذع السروة العجوز، لأشتم عبق النقش، فأستعيد بذاكرة حية وجنتي ميرنا ونظرتها الصافية، مضت سنواتي في الدير على ذلك النحو، حتى بدأتُ أفتقد لأمر كنتُ بدأتُ الاعتياد عليه وهو حضور الرجل الطيب وزوجته إلى صلوات الآحاد، فأخذتُ أصلي لأجل غيابهما المفاجيء ضارعا إلى الرب أن يشملهما بعطفه، في الأعوام القليلة التي سبقت هزيمة حزيران، افتقدت لرؤيا "ام حنا" في منامي، لم أعرف على وجه التحديد متى كان ذلك...لكني أيقنتُ بحدس الإبن بأنها قد فارقت هذه الدنيا، عشتٌ أيامي بعدها مؤمناً بفاجعة ذلك اليتم المفاجيء مسلما أمري بعدها للرب، حتى النقش الذي صنعته يد "ميرنا" على جذع تلك الشجرة في ساحة الدير، كان لحاء السروة العجوز قد نما والتأم ولم يعد هناك ما يدل على وجوده، لكني لم أعرف بم افسر ذلك، فأضحت أيامي مليئة بالواجبات الدينية وخالية تماماً من أي أمل قد يربطني بنبض الحياة الموصول خارج الدير، حتى كانت النكسة وصداها المفزع، فلم أعد أرى الأب "مارون" إلا صامتاً متأملا فارقته الأبتسامة الهادئة لتحل مكانها صفرة غريبة غشيت ملامح وجهه الوضاء، أضحى بلا سبب واضح طريح الفراش أيضاً، لكنه لم يكن ليتخلف عن الصلوات، حتى كان ذلك اليوم، حين زارنا في الدير رجل في الخمسين من عمره، وطأ ارض الدير وراح يقبلها وهو يتساءل بلهفة عن الأب "مارون" فقدناه إلى حجرته، جثى امام سريره وراح يقبل يديه وهو يبكي، ويقول: يا أبتي لم تفارق خيالي طوال فترة نزوحي عن يافا...كما أن هذه المدينة لم تفارقني أيضاً، يا ابتي...يمكنك اليوم أن تزور مهد المسيح في بيت لحم... لكن الأب "مارون" كان جسداً خائراً لم أميز سوى بعض الدموع كان يذرفها بصمت... سألتُ الرجل عن أسمه، فأجاب: "جورج الحن" ... أعاد لذهني ذكرى ذلك الرجل الطيب وزوجته في حي العجمي، ولما حدثته عنهما...هز رأسه في أسى وقال: هما والداي... لم يشأ الرب أن أراهما مرة أخرى، لقد ماتا منذ سنوات.


في اليوم التالي كان علي ان أجمع أشيائي القليلة وأن أغادر الدير، ان أعود إلى "جفنا"، كنتُ كمن يداوي الجرح بالملح... موت المبجل، الأب "مارون" أخرني لما بعد مراسم الدفن...ثم غادرتُ دير طامينا بعد تسعة عشر عاماً لم أشك خلالها ولا للحظة بأن الرب قد عفا عني، وبأني اخرج الآن نقيا بلا خطايا كما ولدتني ذات يوم أمي..."ام حنا".


خارج الدير، تبدلت يافا بما يكفي كي تدير لك ظهرها...تحس بها كوجه قديم...تعرفه، ولكنه لا يعرفك. "جفنا" هي الأخرى تبدلت، لكنها فتية، تلاقيك بذراعين مفتوحين من دون اعتبارات مسبقة، وجدتُ طريقي لذلك البيت، بيت العقد القديم، كانت حشائش الحاكورة الخلفية، المهملة، قد حجبته عني، لكن شجرة "الجميز" المزروعة كوتد ...عرفتني ظلت تنتظر لم تبرح مكانها، ووجه آخر كان آخر شيء توقعتُ رؤيته بعد هذه السنين، أطل من خلف سور بيت مجاور لأرضنا، كان وجه "سعدي" عرفته على الرغم من لحيته المرسلة، حملق في عينيّ قليلا ثم صاح : حنا...غير معقول،حنا...،ثم غبنا في عناق طويل، ذكرته بحمام "أم روبين" وبأفكاره التي كثيرا ما جلبت علينا المصائب ونحن صغاراً ...فضحك في حسرة، ثم اكتست ملامحه مسحة من الحزن والخشوع وهو يردد: أين كنت طوال تلك السنين...أمك يا حنا...كانت...قاطعته وانا أؤكد له بأني فقط جئتُ لأعثر على قبرها... لأزوره في اعياد الميلاد والقيامة، ككل البشر، لأصلي لها...لكنه قاطعني ليقول: عليك أن تعلم بانها لم تمت هنا...بل هناك، في دير التجلي، عثروا عليها وقد فارقت الحياة تحت تلك السروة العتيقة، تحديدا تحت نقش اسميكما انت وميرنا حيث اعتادت ان تجلس وان تعجن للفقراء في الآحاد والأعياد،


صمت سعدي فانتهزت تنهيدة عابرة لأسأل: متى كان ذلك على وجه التحديد؟


- كان ذلك منذ خمس سنوات...


- وأين قبرها الآن ؟


- أتصدق يا حنا...؟ أن احدا من قريتنا لا يعرف!!


- كيف ذلك...وهل يعقل؟ له المجد في الاعالي ... فهل يعقل يا سعدي أن لا نعرف؟


- هذا مع حدث، فقد تطوع الأرشمندريت خليل بفسه لدفنها إكراماً لها، رافقه شماس واحد واثنين من خدم الدير...حاولت أنا ووالدي، ان نعثر على قبرها بعد وقت من دفنها، لكن الأرشمندريت كان قد مات، وأما مرافقوه، فكان منهم من رحل ومنهم من قضى، ولم يعرف احد من قريتنا على وجه التحديد أين قبرها حتى الآن...ثم سكت "سعدي" في تأثر مثلما بدأ، اما أنا فغمرتني دوامة الماضي، ولم افق على الحاضر، حتى كانت تلك الدعوة لأبناء الدير في المهجر، في قاعة دير التجلي... "غداء التقشف" وتلك الصبية المغتربة وهي تزهو بتلك القلادة، ليس من حكمة الكبار وقد تجاوزت السبعين من عمري، أن انكأ جرحاً قديماً عفت عنه السنين، فغادرت الدير على الفور بلا استئذان، ودون ان اتحرى عن تلك الصبية، والتي كان من الممكن أن تقودني إلى "ميرنا" ...أو إلى ما تبق من "ميرنا" ...إلى الأرض وربما إلى ما تبق من حلم طفولي سلبته مني تلك العصابات الصهيونية، حلم طفولي صغير منهوب رجمت به عرض الحائط والأرض في غفلة منّا جميعاً ولم تترك لي عليها قبراً واحداً، ولا حتى شاهدا على قبر... .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الدمام 5-9-2010